قرار خاص جداً..!

صحيح أن الحاج مصطفى ـ حين اتخذ قراره الخاص ـ كان قد قارب الثمانين من عمره، أو تجاوزها بقليل, لكن الصحيح أيضاً أن صحة الحاج, يخزي العين, ما تزال توحي بقوة البدن وسلامة الذهن. وهذه الناحية بالذات هي التي أثارت الجدل في قلب الأسرة ومحيطها، وبخاصة بعد أن خرج القرار إلى العلن، وشاع بين الناس.. وهي التي جعلت حمدون، الابن البكر للحاج مصطفى, يفكر على نحو أكثر عمقاً وشمولاً, وهو يستقرئ الأسباب البعيدة لقرار والده العتيد..!‏

في الحقيقة ـ وذلك ما بدا لحمدون ـ أن الحاج مصطفى لم يتخذ قراراً واحداً فقط.. بل عدة قرارات كانت قد تفرّعت عن قرار رئيسي واضح, ولعلّ تلك القرارات الفرعية قد لمعت في ذهن الحاج كضرورات، لابد منها، للوصول إلى تحقيق القرار الأوّل..!‏

تبدأ الحكاية مع اتخاذ الحاج مصطفى الراضي قرار تصفية دكّانه, استعداداً لإغلاقها بالكامل, وللعلم، إنّ قرار التصفية لم يأخذ من وقت الحاج مصطفى، كما يروي حمدون عن أصدقاء الحاج، سوى دقائق معدودات, انتزعها الحاج مصطفى من سهرة الليلة الأخيرة، لحظة ودّع فيها شلة الشيوخ الأتراب، مبلغاً إياهم قراره النهائي مشفوعاً برجائه الخاص في أن يحمل كلّ منهم، ما خصّه به من موجودات الدكان، تماماً، كما يفعل السجناء، في العادة، حين يطلق سراحهم, وهكذا توزّع الرجال الأصدقاء بقايا السكر والشاي والدخان وحبات الفستق ومضوا إلى بيوتهم، تلوح في آفاقهم القريبة فرحة عجائزهم المغرمات بالكسب المجاني.. لكنّها فرحة لن تستثمر، كما هو الحال في سوالف الأيام.‏

لم يستطع أحد من أصحاب الحاج المقربين، ولا من هؤلاء المعروفين بفضولهم الزائد أن يتعرفوا على وجه التحديد،الأسباب المباشرة، أو غير المباشرة لقرار الحاج مصطفى، إذ لم يمكّنهم الحاج من أيّ خيط يمكن أن يقودهم إلى حقيقة ما قد عزم عليه..! لقد اكتفى الحاج بعبارة واحدة:‏

« كفاني فقد سئمت..!» وحين سأل أحدهم:‏

أين ستلتقي شلة الأصحاب إذاً؟ أجابه الحاج مصطفى:‏

« تلتقون في قهوة صبري..!» وعلى الرغم من عبارات الحاج القاطعة، إلا أنّه التقى بأفراد الشلّة عدة مرات، ثم انقطع عنهم وعن غيرهم انقطاعاً تاماً.. وانفرد في بيته، بل في غرفة نومه التي جمعته مع أم حمدون ما ينوف على الخمسين عاماً.‏

كان حمدون يزور والده يومياً مؤمّناً له احتياجاته الضرورية, مطمئناً على صحته، مستوضحاً، عمّا إذا كان قد طرأ شيء على وضعه الجديد..!‏

لم يجد حمدون في زياراته المتكررة أي تبدّل على حياة والده, غير أنّ الحاج مصطفى همس في أذن ابنه حين همّ بمغادرة البيت لدى زيارته الأخيرة:‏

« لا تتعب نفسك بالمجيء يا حمدون.. فأنا مقدم على تنفيذ القرار بكل تأكيد, وقد بدأت بالفعل..!»‏

دهش حمدون، فسأل، وقد أحسّ بروح والده قريبة منه:‏

أيّ قرار يا أبي؟‏

تنفس الحاج مصطفى بعمق, وبعد صمت قصير، حاول خلاله، أن يشحذ من كآبة نفسه ابتسامة ما..! ثمّ عانق ولده وهو يقول:‏

« مع السلامة يا ولدي.. مع السلامة..!»‏

في تلك الغرفة الأليفة لم يكن الحاج مصطفى ليهدأ في مكان محدد، بل كان دائب الحركة, يقوم, يجلس, يحرّك بعض قطع الأثاث, ينفض عنها الغبار, يفتح الخزانة, يستخرج بعض أشياء أم حمدون, يتمعّن فيها, يقرّبها من صدره, يشمّها, يعبث بها, يعيد ترتيبها, تحلّق روحه في الروائح التي ألفها.‏

ومثل طفل، تمطر عيناه, فيداري دمعهما ببعض تلك الأشياء.‏

وتراه بعد ذلك، يخرج إلى صحن الدار، يلتمس راحة لنفسه الموجعة في الجلوس طويلاً عند شجرة الصنوبر، أو في التوجّه إلى المطبخ، ليقوم ببعض الأعمال غير اللازمة، كأن يعيد غسل صحن مغسول، أو ينقل وعاء من مكان إلى آخر، أو يصنع لنفسه شاياً أو قهوة..!‏

يتأمل خلال ذلك في مفردات المطبخ، فينسى نفسه، ويسرح مع أنواع الأطعمة التي كانت أم حمدون تجيد صنعها، فلا يفيق إلاّ على صوت فوران الماء المغلي، وانطفاء نار موقد الغاز، فيعيد الكرّة من جديد، أو هو يتناسى الأمر كلّه ويعود إلى الغرفة.. غرفة أمّ حمدون..‏

كثيراً ما كان، وهو في عزّ تأمّله، يتهالك على أريكة ما، دقائق، أو سويعات، تاركاً لنفسه التي غالباً ما تكون على حالة من الترجّح بين اليقظة والنوم، حرية التجوّل في سهول الحياة التي اجتاحها على مدى نحو ثمانين عاماً.. تلك السهول التي يراها الآن تعاود النمو في تربة روحه بهية خضراء.. فما إن تراه يغمض عينيه بعد استوائه على الأريكة، حتى تأسره مشاهد الشجر النامي منضّراً بالضوء، وملوّناً بالثمر المشتهى، فيغوص الحاج مصطفى مأخوذاً بسحر ذلك العالم وبهائه..!‏

ورغم الإعياء الذي صار إليه جسمه، وخصوصاً، بعد انقطاعه عن الطعام، أصبحت هذه الحالة طقساً وحيداً يستحوذ على حياته داخل المنزل..!‏

حمدون الذي لم يتقيد بطلب الحاج..! لم ينقطع عن زيارات والده اليومية، لكنّه صار مضطراً لوضع الحاجات التي يجلبها له عند الجيران، بعد أن ييئس من إقناع الحاج بأخذها أو بفتح الباب لمقابلته..!‏

وهكذا.. ففي الوقت الذي صار فيه حمدون يشعر ببطء الأيام وثقلها، لما يسمعه من أحاديث وإشاعات تحوم حول والده، كان الحاج يقلّب صفحات حياته بلذة فائقة، وبسرعة تقارب سرعة الزمن الذي اختطفها..!‏

ثمّة بقع في السهل الفسيح عزيزة على نفس الحاج مصطفى، فما كان له أن يغادرها دون أن يملأ عينه من بهجتها، وما كان ينغص عليه متعته، سوى بعض الآهات الموجعة، يضطر إلى سحبها من صدره المتعب..!‏

هاهو ذا الآن يمعن النظر إلى مكان اللقاء الأوّل بأم حمدون.. يا ألله.. كانت مثل غزالة برية..! وكان مثل صيّاد حاذق، لا تفوته طريدة.. لكن تلك الطريدة لم تدخل دائرة الهدف إلاّ عن طريق الأمّ أولاً، وبوساطة الرجال الذين حسبوا وقرّشوا، وتوافقوا ثانياً، ثمّ بعد أن قرع الطبل، وزغرد المزمار، ومالت خصور البنات على الشباب ثالثاً..! بعدئذ كانت الليلة التي ما سمح له الأهل والأصحاب أن يعبّ من خمرها سوى رشفة أو رشفتين، إذ أخرجوه، ليتأكدوا من أنّه قد حرث في أرض بكر، و ليتابع هو السهرة مع الشباب العزّاب..!‏

هاهي ذي الغرفة، بما تحتويه من سقف وجدران ومفردات كثيرة أخرى، تتحوّل إلى ألسنة وأعين وحواسّ مختلفة، لتشهد على بهجة تلك الأيام ومتعتها..!‏

كثيرة هي المتع التي عاشتها روح الحاج مصطفى مع دخول بدرية (أمّ حمدون)عالمه..! ( ولادة حمدون، تخرّجه في الجامعة، عودته من خدمة العلم، شجرة الصنوبر التي زرعها الحاج يوم ولادته، ورعتها أم حمدون، حتى صار ظلّها مكاناً مفضّلاً لشرب الشاي والقهوة، وتبادل الكلام في المسائل الأسرية الصغيرة..!)‏

ما يثير الحاج الآن، أنّ أم حمدون تتجرأ عليه.. تطلب منه أن يتبعها.. أن يقبل عليها.. والأكثر من ذلك كلّه، أنّها تتغنج كما لم تفعل من قبل..! وهي التي كانت طوال عمرها، تأتمر بأمر الحاج، فلا تردّ له طلباً.. وحتى في تلك الحالات التي تتطلب نوعاً من التدلل.. كانت تغلّف رغبتها بشيء من التمنّع المحبب للحاج مصطفى.‏

أم حمدون الآن، تشير إلى الحاج أن يتبعها، والحاج رغم استغرابه التحوّل الحاصل في شخص بدرية، إلا أنّه ينجذب نحوها، يركض، يقفز، يحاول الإمساك بها، لكن دون جدوى.. فثمة مسافة محافظ عليها..!‏

يتعب الحاج، فيستريح بعض الوقت.. ثمّ ينهض من جديد.. المكان جميل ومثير..! نبع جار.. وخضرة شاملة.. عصافير كثيرة تتقافز ضاحكة فوق أشجار الصنوبر..« كيف للعصافير أن تضحك..؟» يهمس الحاج لنفسه، بل كيف لبدرية أن تصير هي الأخرى حمامة تهدل عند الصنوبرة..؟!‏

أسماك ملوّنة تسبح لاهية في الماء الزلال.. بدرية تتموّج أيضاً على صفحة الماء، بدرية تخرج من الماء حورية بهية، للمرة الأولى، يراها الحاج على هذا النحو من الجمال العذب..!‏

تلف جسدها المبلل بغلالة بيضاء.. ترقص روح الحاج على نغمات الطبل وزغردات المزمار.. وحدها بدرية الغاية والمرتجى.. هاهي ذي تغمز للحاج، تتغنج، تمدّ ذراعيها.. يحسّ نعومة أناملها تعبث بشعر صدره الأسود، يسري الدفء في جسد الحاج، فتنتعش روحه، ويندفع، ويكاد يهمّ، لولا أنّ المسافة، المحافظ عليها، تأخذ في الاستطالة، بدرية تبتعد كثيراً.. تصير في قلب الوادي، ويبقى الحاج مصطفى الراضي يراوح في المكان، عيونه إلى الأسفل البعيد، وأصابع قدميه تتحسس حافة الوادي الصخرية..! يرتعش.. يغادر الدفء جسمه.. يتقدم قليلاً.. يهمّ.. لكنّه يتراجع..!‏

بهاء بدرية ما يزال يطغى.. يهيمن.. بدرية تنزع الغلالة عن جسدها.. تمسك بأطرافها.. تعاونها الطيور والأسماك، وأغصان الصنوبر.. تُفرَشُ الغلالةُ بساطَ أمان.. تتوهّجُ نفسُ الحاج، تشتعل روحه بالرغبة..! وكمن يبدأ مباراة رياضية، يعدّ:‏

واحد، اثنان، ثلاثة.. ويسقط الحاج مصطفى الراضي في الفراغ.. يتهاوى في انحدار متسارع نحو قاع شديدة الظلمة..!‏