ســـــــفر
ســـــــفر لم تكن معاناتي بسبب القطار الطويل الذاهب شمالاً..! كما أنّها لم تأت من المقصورة الخاصة التي حجزت فيها مقعدين, لي ولزوجتي المريضة التي ترافقني في سفرتي الطويلة هذه.. المعاناة، يا سادتي، بدأت مع تتالي الطارقين باب المقصورة من هؤلاء الباحثين لأنفسهم عن مقعد شاغر.. في القطارات الذاهبة بعيداً، يبدِّل العديد من المسافرين أمكنتهم بحثاً عن سمير مؤانس.. أو هرباً من جليس لا يحتمله السفر الطويل..! كثرة الطارقين جعلتني متيقظاً, متوتراً, أنصت بحذر لوقوع الأقدام المتهافتة على المقصورة، راغباً في تبيّن هويّة أصحابها, وفي اختيار مرافق يعينني على احتمال المسافة الطويلة، فلم يكن بمقدور زوجتي القيام بذلك، ليس لأنّها زوجة فحسب، بل لأنّها مريضة كما أشرت، وما مرافقتها لي إلا بسبب عرضها على الأطباء الأجانب. هاهي ذي قد اتخذت من المقعد الطويل الآخر سريراً، وتمددت مغمضة العينين، صامتة، ساكنة..! للأقدام بصماتها.. تنبئك أحياناً عن جنس صاحبها، وربما عن بعض طبائعه أيضاً..! عيناي لا تغادران باب المقصورة, واعتذاراتي التي تنزلق على لساني سريعاً, تسبقها إشارة من يدي إلى المرأة المضجعة على المقعد المقابل..! بعض الأقدام تخبط الأرض خبطاً, كأنّما تصارعها, وبعضها الآخر يلامسها بنعومة وشفافية..! ثمّة نوع آخر يدندن دندنة, كأنما يعزف للأرض أو عليها ألحاناً تضفي على مفرداتها نوعاً من التناغم والتواد.! استعنت على قلقي وتوفزي بكأسٍ من الزجاجة التي أعددتها لهذه السفرة الطويلة.. الكأس صاحب يبُزُّ الكثيرين من الأصحاب، وهو نديم من لا نديم له.. يطلق أعنّة الأخيلة، ويفتح نوافذ ممتعة لأحلام جديدة..! أقدام من النوع الثالث تقترب من باب المقصورة, تدندن: دِنْ دَنْ دِنْ دَنْ.. تتوقف الدندنة، وتأخذ أكرة الباب في الاستدارة الهادئة، فتتراخى أصابع يدي.. وتترك للباب حرية الانزلاق.. هواء جديد يدخل المقصورة.. ووجه أنثوي يطلّ.. يتعثّر اللسان.. لا يعتذر كما في كلّ مرّة.. كأنما ربط بحبل، أو صار تحت حجر ثقيل.. يومئ الرأس وتتحرك اليدان، وحين تمتلئ المقصورة بالشباب الفيّاض, ويذهب الشعور المنعش إلى دغدغة أغصان الروح.. يتحرر اللسان من أسره، فينطلق صادحاً: « أهلاً وسهلاً.. وبإنجليزية ركيكة welcome..» في مثل هذه الحالات تكون المحاكمات الذهنية خاطفة, ويكون القرار حاسماً..! قراري ترجمته ابتسامتي، عصفوراً راح يتقافز نشوان على غصن قد اخضَرَّ للتوّ..! المقصورة كلّها أخذت تضجّ بالماء والخضرة، لتوقظ في النفس ألواناً من الفرح المرتجى..! Hello .. Hello »..» أعقبهما صمتٌ قصير.. حملتُ خلاله حقيبة الصبية.. وضعتها على رفِّ المقصورة فوق المقعد الآخر.. ألقيت خلال ذلك نظرة سريعة على الزوجة النائمة.. كانت ما تزال على وضعها السابق.. ممددة على طولها.. مغمضة العينين.. ساكنة تماماً..! شيء ما عكّر مزاجي.. تصوّرت أنّ الزوجة الممدة أمامي قد فارجت ما بين جفنيها للحظة، فلمحتني وأنا أرفع الحقيبة، وأنّها، ربما، لمحت الصبية الغريبة.. ومما تصوّرته أيضاً، أنّ في نومها الظاهري هذا نوعاً من المكر أو الخداع.. لكني عدت لأقنع نفسي بأنّ الأمر كلّه مجرد وهم أو خيال..! « المرأة مثل إله يمنح الحبّ من يشاء بغير حساب.. لكنّ الويْل، كلّ الويل، لمن يشرك بها » سألت الشابة عن وجهة سفرها ومسافته, أجابت بلغتها الأجنبية.. وحين عرفت من تعابير وجهي أنني لم أتبين معالم كلماتها, حاولت أن ترسم بأصبعها على تنورتها، لكنّها لم تفلح، فالتنورة لا تغطي سوى جزء يسير من فخذيها، عندئذ عمدت إلى الرسم على فخذها المكشوف، بعفوية، ودونما أيّ حرج، وكان عليّ أن أتابع خطاً وردياً راح ينمو، ويتدرج فوق كوم من القمح الأشقر.. فأقرأ، وأنا أبتلع ريقي.. « اسم الصبية، واسم البلد الذي تقصده، والأرقام التي تحدد طول المسافة وزمن الرحلة..» وحين انتهت، ورفعت إلي وجهاً باسماً، هززت رأسي دلالة الفهم والإعجاب.. وراودتني فكرة الكتابة على الدفتر نفسه.. إلا أنني لم أفعل.. بل إنني لم أجرؤ.. فرسمت على راحة يدي، اسمي ومكان وجهتي، موضّحاً سبب السفر بإشارة إلى زوجتي المريضة..! الزوجة ما تزال على حالها, عيونها مغمضة, تنفسها طبيعي, صدرها يعلو ويهبط بانتظام..! تساءلت في نفسي: « أهي نائمة حقاً, وهل يأتيها نوم بعد أن رأت الفتاة، ولكن هل رأتها حقيقة؟!» صببت للشابة كأساً.. وصببت لي كأساً آخر.. قرَّبنا الكأسين من بعضهما، فصوّت الزجاج المخمور.. وخيّل إليّ أنّ عظام الجسم الممدد أمامنا قد صوّتت هي الأخرى، لكنّ الذي طمأنني أنّ العينين ما تزالان مغمضتين، وحركة الصدر باقية على حالها من التواتر والانتظام الهادئين..! زحزحت نفسي باتجاه الصبية مسافة اثنين أو ثلاثة سنتيمترات..! « أنت جميلة..» قلتها بالإنجليزية، «you are beautiful..» تلك العبارة كنت قد حفظتها منذ أيّام المدرسة..! ابتسمت.. تورّدت أكثر مما هي عليه.. تَمتَمت Oh Thank you .. صدر المرأة الممدة جانباً يعلو ويهبط, ذلك يعني أنّ تنفسها طبيعي, عيونها ما تزال مغمضةً, إنها نائمة بكل تأكيد..! بل لعلّ روحها المتعبة راغبة عن هذا العبث. مددت يدي إلى حقيبتي الصغيرة, أخرجت بعضاً مما أحمله في العادة, تذكارات لمن ألتقي بهم مصادفة..! أعطيت الفتاة شالاً حريرياً، فابتسمت وهزّت رأسها شاكرة, ثمّ مالت نحو حقيبتها.. فتحتها.. أخرجت ميدالية صغيرة.. قدمتها بخجل.. شكرتها أيضاً بالعربية والإنجليزية, وحين تبادلنا الهدايا والابتسامات، أبقيت يد الفتاة في يدي.. رفعتها قليلاً.. مررت عليها شفاهي.. تحسست فيها نعومة الجسد الشاب، وامتلأ صدري من عبق الأنثى الخاص, فاندفعت باتجاه الصبية عدة سنتيمترات أخرى..! أنفاس المرأة المرمية جانباً تتردد على نحو طبيعي، الصدر يعلو ويهبط بانتظام, كأنّما يوحي بنوم عميق جداً. عدّة سنتيمترات أخرى.. التصقت بالفتاة كليّاً.. ملت إلى شفاهها المشتهاة, وقبيل التماع أيّ برق، رعد صوت، انكسر من هوله الصمت واللهاث والعبث الجميل.. «عيب.. استح..» احمرّت وجنتا الفتاة.. بينما اربدّت سحنتي أنا..! وحدها المرأة المريضة الممدّدة أمامنا, شكلت على أنفها علامة التشفي والانتصار, ثمّ عادت إلى نوم كاذبٍ آخر..! |