الكلب السائب | صادق هدايت | علي اللقماني

"كان يحس بحاجة شديدة الى العطف"

"كان كالطفل الذي قدر له ان يتلقى"

"الاهانة والتقريع ولما تنطفئ فيه بعد"

"جذوة كرامة عتيدة..............."

بضعة دكاكين صغيرة لبيع الخبز، جزار، عطار مقهيان وحلاق، وكلها، مجتمعة لا تكاد تدفع غائلة الجوع، وتسد الحاجة لضرورات الحياة الاولية، كانت تؤلف ميدان قرية "ورامين".

والميدان ومن فيه من الناس وهم انصاف محمصين تحت اشعة الشمس المحرقة كانوا يتطلعون بحنين الى اوائل انسام الاصيل وظلال الغروب.

وقد اعجز قيظ الظهيرة الناس والدكاكين وحتى الحيوان والشجر عن العمل والحركة، وحومت فوق الميدان لبدة من هواء السموم الحار والممزوج بذرات من الغبار الناعم الثقيل الوطء، وحجبت عن السابلة مرأى السماء اللازوردية فوق الرؤوس.

وكان مروق السيارات من الميدان يثير من تراب الارض موجات تزيد من كثافة الغبار وعتمته.

وفي جهة من الميدان كانت شجرة جميز قديمة عجفاء تمد فروعها المعروقة العوج هنا وهناك، بالرغم مما اصاب جذعها من نخر وتآكل وانهيار، وتحت الظلال التي تنثرها اوراقها المتربة فوق الارض اقيمت صفة كبيرة من الطين اقتعدها صبيان يبيعان (شوربة حليب) و(لب يقطين) ويناديان على بضاعتهما بغناء عال.

وثمة ماء موحل يتلوى بعناء وجهد ليجد نفسه منسابا في الساقية الضيقة امام المقهى.

اما المبنى الوحيد الذي كان يلفت النظر في كل قرية فلم يكن غير برج ورامين المعروف الذي كانت تبدو منه قمته المخروطية ونصف مسلته الاسطوانية المثلمة المتداعية، وقد عششت فيها العصافير، وهجعت تغالب النعاس في حر القيلولة.

ولم يكن يسمع من صوت الا انين متقطع يأتي من بعيد..

انين كلب.. يقطع الصمت المخيم على الميدان بين حين وحين.. كان كلبا سكوتلانديا ذا رأس ادكن ورجلين سوداوين فيها بقع بيض وكأنه قد عدا كثيرا في حمأ واصيب برشاشة، فأذناه الدقيقتان الناعمتان، وذنبه الكث الشعر، ولبدته، كلها كانت قذرة يكسوها الطين والوحل.

ولكن عينين نفاذتين كعيون الانسان كانتا تومضان من خلال الشعر الكثيف الذي يغطي وجهه.. وكأن روحا آدمية تقبع في اغوارهما.. ففي مننتصف ليلة احتوت حياته كلها، تجمعت فيها وراء حدقتي عينيه امواج من شكل ما، تحمل رسالة لا يعرف كنهها، وقد اعيقت وراء خلجات اهدابه، لم تكن اشعاعا ولا لونا، كانت شيئا عجيبا لا يصدق، كالحلم الذي يداعب عين ظبي جريح. لم تكن تشبه عيون الانسان حسب بل كانت تضاهيها في بلاغة التعبير.

عينان سوداوان تنوءان بالضنى والعذاب و.. الانتظار. عينان لا ترى مثلهما الا في رأس كلب سائب في قارعة الطريق!

وكان يبدو ان ليس من احد يلحظ هذه النظرات المتوجعة المتوسلة او يفهمها..

فهذا صانع الخباز لا يدخر وسعا في ضربة كلما ظهر امام حانوته، وصانع القصاب يلقمه الحجارة كلما رآه من بعيد.. فاذا احتمى من حر الهجير بظل سيارة تلقى حذاء السائق الثقيل الملئ بالمسامير على جنبيه واضلعه فاذا تعب الكل من ايذائه كان الصبي بائع(شوربة اللبن) يبدأ بتلذذ في تعذيبه على طريقته الخاصة.

فيرميه بحجارة وينتظر صرخة التوجع التي تند منه فيبادره بحجر آخر على عظامه المعروقة يردفه بقهقهة تختلط مع انين الكلب ويصيح: "يا ابن الكافر!"

وكأن الآخرين قد تواطؤا مع الصبي، فهم يشجعونه من طرف خفى حين يزمون اشداقهم على ضحك مكتوم بين حين وآخر.

كان الجميع يؤذونه مرضاة لوجه الله.. وكان يبدو لهم طبيعيا ان يلقموا كلبا نجسا لعنه الدين الحنيف، وله ثمة سبعون روحا.. فيكسبوا بذلك مثوبة واجرا.

ولكن اوصاله المكدودة وقواه الخائرة لم تكن تعينه على الحركة.

لقد كان يحس احساسا موجعا ممزوجا بالخور والعجر.. ودهمته مجموعة متداخلة من الاحاسيس الضائعة المنسية.

كان فيما مضى يحس بالحاجة الى اشياء كثيرة متباينة. ويرتبط بقيود كثيرة متباينة ايضا. كان يرى نفسه مكلفا بالاستجابة لدعوات صاحبه، مكلفا بطرد الكلاب الغريبة والاشخاص الغرباء اذا دنوا من دار صاحبه، باللعب مع طفل صاحبه، بأن يسلك بلياقة مع الاشخاص الذين يترددون كثيرا على الدار، بأن يأكل في وقت معين، ويتلقى العطف والربت في وقت معين.. اما الان فقد رفعت عنه كل هذه القيود..

وتركز اهتمامه في امر واحد.. ان يلتقط، في رجفة خوف وسورة جوع، قطعة عظم من كومة زبيل، ويتلقى بعدها الضرب الموجع والحجارة، وينبح.. وهذا هو سلاحه الوحيد في الدفاع عن نفسه.. ويئن ويتلوى ما شاء.

لقد كان فيما مضى، شجاعا، جريئا، نظيفا ذا حيوية، اما الان فلم يعد غير جبان خنوع، يفزع لاي صوت ويرتجف من أي شيء يتحرك قرب اذنيه.. بدا يخاف حتى من صوته هو.. واعتاد منظر القذارة والزبيل.. كان يشعر بالحاجة الى ان يحك جسده.. ولكن انى بالنشاط لطرد البراغيث والانتفاض، ودفع القذارة عن هذا الجسد؟ لقد عنّ له انه غدا جزءاً من هذا الزبيل..

وأخيرا، لم يجد الحيوان طريقا للخلاص من ايذاء الصبي بائع الشوربة غير الهروب والتماس الزقاق المؤدي الى برج القرية. فانسحب ببطنه الخاوي وهو يجر الاربعة باعياء الى ساقية الماء التي تمر من تحت سور البستان المجاور، وهناك طوى ذراعيه تحت رأسه واخرج لسانه واسترخى وظل يتطلع، وهو نصف نائم الى بساط العشب الاخضر، المواج امامه.

كانت اوصاله تقطر تعبا.. وقد احس براحة خاصة تسري في جسده، من مؤخرة ذنبه الى مقدم اذنيه وهو منبطح في الساقية الرطبة. واحيت الروائح الكثيرة المندفعة الى خياشيمه من اكناف الساقية، روائح النباتات المتآكلة، فردة الحذاء القديمة الخائسة في الماء.. العضويات المتفسخة، او التي في طريقها الى التفسخ.. أحيت خواطر متشابكة وبعيدة في ذهنه المكدود.

كان كلما نظر الى العشب الاخضر فوق بساط الحقل، استيقظ في نفسه ميل غريزي يبعث الحياة من جديد في ذكرى قديمة في ذهنه، وكأن سريان الحياة في هذه الذكرى، بدا اشد في هذه الساعة من أي وقت آخر. وكأن صوتا يهدهد عند طرف اذنه ويدفعه الى القفز والركض هنا وهناك، لقد احس برغبة جامحة الى اللعب والتدحرج فوق بساط العشب المواج امامه.

وكانت رغبة ورثها عن اجداده الاوائل الذين عاشوا في سكوتلندا يثبون ويمرحون في مروجها الخضر بحرية وانطلاق.

وان شيئا ما قد مات فيه.. قد انطفأ.

لقد مضى عليه شتاءان وهو في هذه البقعة التعيسة.. وما اغمض على شبع وامتلاء ولو مرة.. وهل اتيح له ان يغمض؟. مجرد ان يغمض بفراغ وراحة بال.. لقد احتبست فيه كل شهواته الطبيعية. وكل احاسيسه.. لم يكن ليجد احدا من الناس يربت على رأسه او يحدق في عينيه.

ومع ان الادميين الذين يراهم في هذا المكان يشبهون صاحبه في الظاهر، الا ان احاسيسهم وسلوكهم يختلف عما كان لصاحبه اختلاف الارض والسماء. وبدا له ان الآدميين الذين كان يعيش بينهم في الماضي كانوا اقرب الى دنياه من هؤلاء.. كانوا اقدر على تفهم احاسيسه وآلامه من هؤلاء.

كان يشعر بالامن بينهم.

ومن بين الروائح الكثيرة التي كانت تداعب انفه في هذا المكان كانت رائحة (شوربة اللبن) امام الصبي المعاكس اكثرها امعانا في ادارة رأسه. فهذا السائل الابيض.. يشبه لبن امه.. ويدفع الى رأسه صورا براقة من ذكريات طفولته..

واحس فجأة بارتخاء مستساغ.. تذكر يوم كان طفلا صغيرا يرضع هذا السائل الدافئ المشبع من ثدي امه.. وهي تلحس بلسانها الناعم المتوتر يديه وقدميه وجنبيه.. وطفرت الى انفه ذكرى الرائحة القوية التي كان يحسها في حضن امه وبين اخوته.. في اللبن الذي كان يعتصره من ثديها.

فاذا انتشى من الرضع.. واحس بالراحة والدفء السائل بنساب في عروقه واعصابة.. ثقل رأسه ومال عن الثدي وانغمر في نوم عميق تتخلله وعشات لذيذة في طول جسده.

ما الذ هذا!

ما امتع ان يدفع بيديه وهو مغمض عينيه على احد اثداء امه.. فينساب اللبن الى فمه بسهولة ويسر.. وبدون عناء وركض ولهث.. وصوت امه ولمسة جلد اخيه المخملى من حوله.. وكان يمتلئ بالعطف واللذة.

وتذكر بيتهم الخشبي والساعات التي كان يقضيها في اللعب مع اخيه فوق العشب الاخضر في الحديقة.

كان يعض على اذني اخيه الناعمتين الصغيرتين فيقعان على الارض. ثم ينهضان ليعدو احدهما وراء الاخر.. وشاركهما لعبهما بعد مدة رفيق جديد.. ابن صاحبهما. كان يعدو وراءه في ممشى الحديقة وينبحه ويعض على ملابسه.. فيأتي صاحبه ويربت على رأسه ويمطر عليه من عطفه وتدليله.. ويطعمه قطع السكر في راحتيه.. لن ينسى ذلك ابدا.. لن ينسى..

ولكنه كان يحب الطفل اكثر، فقد كان شريكه في اللعب ولم يعن له يوما ان يضربه.

وبعد ذلك بزمن فقد امه واخاه فجأة.. ولم يبق من حوله غير صاحبه وزوجة صاحبه والطفل والخادم العجوز.. لقد كان يميز رائحة كل منهم ويتعرف على صوت اقدامهم جيدا من بعيد.

وفي اثناء تناول الطعام كان يدخل الغرفة ويدور حول المائدة ويتشمم. وكانت زوجة صاحبه، بالرغم من ممانعة زوجها، تطعمه لقمة او لقمتين وهي تدلـله وتربت على رأسه حتى يأتي الخادم العجوز فينادي عليه: "بات" ويأخذه بعيدا ليضع له الغذاء في انائه الخاص بجوار البيت الخشبي..

*****

ونشوة بات هي التي جلبت عليه كل هذه التعاسة. فلم يكن صاحبه يسمح به بمغادرة الدار وملاحقة الكلاب الاناث.

وذات يوم من ايام الخريف زار البيت شخصان كان يعرفهما بات ممن يترددون كثيرا على صاحبه.. وصعد الثلاثة الى السيارة ونادوا على بات وأركبوه معهم.

وكثيرا ما كان بات يصحب سيده في اسفاره بالسيارة. ولكنه في هذا اليوم كان منتشيا رائق الطبع يحس بين جنبيه فورانا جديدا لا عهد له بمثله.

وبعد مسيرة بضع ساعات نزلوا من السيارة في هذا الميدان.

ومضى صاحبه ومعه الشخصان الاخران في طريق البرج.. ومضى هو يتبعهم.. ولكنه في منتصف الطريق احس برائحة غريبة تندفع الى خياشيمه.

وكانت رائحة الجنس الاخر.. رائحة الانثى.. وكان بات يبحث عنها في عالمه قبل اليوم بوله.. فاندفع بجنون مفاجئ يبحث عن مصدر الرائحة في قناة الماء التي تؤدي الى البستان المجاور.. وقبيل الغروب سمع صاحبه يناديه.. بات... بات.. وتكرر النداء مرة اخرى.

فهل كان صوتا حقا؟ أم انه صدى بعيد لصوته يداعب اذنيه؟ ومع ان صوت صاحبه كان ذا تأثير قوي عليه.. فهو يذكره بتعهداته وتكاليفه التي يدين بتأديتها لصاحبه.. الا ان قوة اخرى، تفوق قوى هذا العالم الخارجي كانت تسمره في مكانه هنا، الى جانب انثاه، واحس كأن بأذنيه ثقلا وفي قدميه تلكؤا امام الاصوات التي تأتيها من العالم الخارجي.

لقد استيقظت فيه مشاعر حادة عارمة، واصابه دوار من الرائحة الشديدة التي تتصاعد من الكلبة الانثى الى جواره.

وفقد سلطانه على نفسه، وتمردت احاسيسه وعضلاته على طاعته، ولم يقو على ان يعي شيئا بعد..

ولم يطل به الحال حتى هرع اليه بالعصي والمساحى.. واخرج من مجرى القناة..

كان مخمورا متعبا.. وكأنه في حلم.. ولكنه احس في نفسه بالنشاط والانشراح.. وما ان استعاد نفسه حتى هب يبحث عن صاحبه.

لقد استشعر بقايا ضعيفة من رائحته في الازقة فتبعها.. وفي تجواله كان يترك لنفسه اثرا بين حين وحين. حتى انتهى الى الخرائب خارج القرية.. وقفل راجعا.

وخمن بات ان سيده ذهب الى الميدان. ولكن الخيط الضعيف من رائحته كان قد اختلط بالروائح الحادة الاخرى في الميدان وضاع.

هل ذهب صاحبه وتركه وحده هنا؟ واحس بخوف وقلق لذيذ.

كيف كان يمكن لبات ان يعيش بدون سيد؟ بدون اله؟ او لم يكن صاحبه بمثابة اله له؟

ولكنه كان موقنا من ان السيد راجع للبحث عنه من غير شك.

ومضى وهو خائف يعدو في الازقة والطرقات، وعبثا عدا وبحث.

فاذا جن الليل عاد الى الميدان مرهقا منهوك القوى فليس ثمة من اثر لصاحبه.

وطاف مرة اخرى وثالثة بالقرية ثم انتهى الى حيث بدأ.. الى مجرى القناة حيث التقى بالانثى.. ولكنهم كانوا قد سدوا المجرى بالحجارة فلم يعد بمقدوره ان يلجأ الى البستان.. واندفع بات بنشاط ينبش التربة بيديه.. عله يفتح ثغرة ينفذ منها في جدار البستان..

ولكن هيهات.. لقد كان ذلك مستحيلا.

ولما ادركه اليأس انبطح في مكانه وبدأ ينعس.

وفي منتصف الليل ايقظه صوته هو.. حشرجة ندت منه وهو يحلم.. فهب من مكانه مذعورا واخذ يطوف في الطرقات يشم الحيطان والاعشاب والسواقي وهو حائر لا يدري ما يصنع.

واخيرا احس بجوع شديد.. فلما قفل عائدا الى الميدان اندفعت الى خياشيمه روائح مختلفة متعددة: رائحة اللحم البائت والخبز المحمص واللبن المحلب.. وقد اختلط بعضها ببعض. ولكنه كان يحس في قرارة نفسه بأنه مذنب. وقد دخل اقليم الاخرين ولا بد له من ان يستجدي هؤلاء الادميين الذين كانوا يشبهون سيده. فان لم يعن لكلب آخر ان ينافسه ويطرده من الميدان حصل على حق في الاقامة.. ولعل احد هؤلاء الذين يقبضون دائما على اواني الطعام يتكفل به بعد الان.

وتقدم بحذر وخوف نحو حانوت الخباز الذي فتح توا. كانت رائحة العجين تملأ الفضاء من حوله واذا بأحدهم وكان يحمل خبزا تحت ابطه يتقدم نحوه ويناديه:

"تعال!.. تعال..!"

كم كان صوته عجيبا!

والقى اليه بقطعة من الخبز.. وبعد قليل من التردد التقط (بات) القطعة واكلها وهز ذنبه للرجل.. وتراجع الرجل ووضع حمله من الخبز على دكة الحانوت ثم عاد وتقدم بخوف وحذر من بات.. ووضع يده فوق رأسه..

ثم انحنى.. وبكلتا يديه اخرج القلادة الجلدية من عنقه.. واحس بات بالراحة والخفة.. وكأن كل تعهداته، كل قيوده وتكاليفه رفعت عن كاهله..

وما ان حرك ذنبه ثانية للرجل وهو يتقدم نحو الدكان، حتى فوجئ بركلة قوية على جنبه..

وابتعد وهو يصرخ..

ومضى صاحب الدكان الى ساقية الماء امام حانوته ودفع كفيه الى الماء ثلاثا وتطهر.

لا يزال بات يعرف قلادته الجلدية وهي معلقة في واجهة حانوت الخباز كلما مر من هناك.

ومنذ ذلك اليوم، لم يحصل بات من هؤلاء الادميين على غير الركل والحجر وضرب العصا.. وكأنهم جميعا له اعداء موتورون، يتلذذون في تعذيبه والتنكيل به.

واحس بات بأنه قد دخل دنيا جديدة ليس فيها شيء منه. ولا فيه شيء منها.. ولا احد يدرك عالمه او يتفهم احساسه.

وامضى الايام الاولى بعذاب، ولكنه سرعان ما الف الحال.. لا سيما بعد ان اكتشف ان في منعطف الزقاق المجاور.. عند الجهة اليمنى محلا لالقاء الفضلات، كان يجد في ركامه قطعا شهية من العظام والشحم والجلد وكثيرا غيرها مما لم يكن يميزه عن غيره من انواع الطعام.

وكان يمضي بقية يومه امام حانوت القصاب والخباز مركزا عينيه على ايديهما وما تجودان به عليه.. ولكن الضربات التي يتلقاها كانت اكثر مما ترميه تانك اليدان اليه.

وانس لحياته الجديدة على مر الايام.. ولم يبق من حياته الماضية غير حفنة من الذكريات الغامضة المشوشة.. وبضع نفحات ضعيفة من روائح، كان كلما اشتد به الحرج يلوذ بها ويعود بالذاكرة الى فردوسه المفقود، الى احلامه الماضية ورؤاها.

ولكن الشيء الذي كان يؤرق بات ويزيد في وحشته وعذابه حاجته الى العطف والربت على رأسه.. كان كالطفل الذي قدر له ان يتلقى الشتائم والسباب والضرب والتقريع فيتلقاها على مضض ولما تطفأ فيه بعد جذوات كرامة عتيدة.

كان يحس بأن في نفسه حاجة ملحة، الى التدليل. وكأن عينيه في حياته المشحونة حزنا وكآبة كانتا تطلبان هذا العطف من الرائحين والغادين وتستجديانه، ولو قدر له ان يدفع حياته ثمنا لذلك.

كان يحس بحاجته الى ان يبدي هو حنانه ووفاءه للآخرين.. ان يقوم بتضحية لهم.. ان يقدم عبادته وطاعته لاحد.. ولكن...

يبدو ان ليس في هؤلاء من يريد وفاءه.. ويتقبل طاعته وليس فيهم من يرتضى حمايته.

ولئن حدق في عين أي واحد منهم لما رأى فيها غير العداوة والشر.. وما من حركة كان يقوم بها لارضاء هؤلاء الناس الا كانت تعود عليه بغضب وقسوة تصبان على رأسه الوان العذاب.

كان مستلقيا فوق طين المجرى يغفو ويئن ويستيقظ وكأن كابوسا يجثم على صدره.

وأحس بلسع الجوع يفرى احشاءه..

كان جوعا كافرا انساه كل ضعف وكل الم.. فنهض بعناء ورفع خطاه وهو يتقدم نحو الميدان بحذر.

وفي هذه اللحظة دخلت الميدان احدى هاته السيارات بضوضاء وجلبة.. ومن ورائها حزمة كثيفة من الغبار.. ونزل منها رجل تقدم نحو بات فقد كان يعرف رائحة سيده معرفة تامة.

ولكن كيف قدر لاحد غير صاحبه ان يربت على رأسه ويعطف عليه؟

وهز بات ذنبه ونظر الى الرجل مرددا:

الم يخدع؟

ولكن انى له ان يتوقع العطف، ولا طوق في عنقه وعاد الرجل وربت على رأسه مرة اخرى فتبعه بات، وما كان عجبه حينما رآه يدلف الى صالة يعرفها بات جيدا ويعرف ان روائح الطعام الشهي تخرج منها دائما.. وجلس على مصطبة قرب الحائط.

وجيء اليه بخبز حار ولبن وبيض والوان اخرى من الطعام. وكان الرجل يغمر قطع الخبز في وعاء اللبن ويلقيها تحت قدمي بات.

وكان بات في بادئ الامر ينكب على الخبز ويتعجل التهامه.. ولكنه سرعان ما احس بالطمأنينة.. فأخذ يوزع نشاطهة بين الاكل وبين التحديق بعينيه السوداوين اللتين بدأ الجذل وعرفان الجميل يطل من اهدابهما، الى طاعمه الرجل.. ويحرك ذنبه بشدة.

هل كان في يقظة ام في نوم؟

لقد هيئ له ان يتناول وجبة من الطعام الشهي دون ان يتخللها ضرب وزجر.

هل قدر له ان يجد سيدا جديدا؟

وبالرغم من حرارة الجو نهض الرجل وسار في الطريق المؤدي الى البرج.. حيث مكث قليلا ثم استأنف السير في ازقة متعرجة حتى بلغ نهاية القرية حيث توجد الخرائب التي زارها سيده من قبل.

لعل هؤلاء الآدميين ايضا يتسقطون روائح اناثهم هنا؟

وانتظر بات في ظل حائط ثم عاد خلف الرجل من طريق آخر الى الميدان.

وانحنى الرجل مرة اخرى ومسح رأسه.. وبعد طواف قصير في الميدان صعد الى احدى هذه السيارات التي كان يعرفها بات جيدا. ولم يجرؤ على الصعود معه.. ولكنه وقف الى جوار السيارة يحدق فيه.

وتحركت السيارة فجأة ومضت تشق طريقها وسط موجة من التراب والغبار في الميدان.. ولم ينتظر بات، وشرع يعدو وراء السيارة، لقد وطد العزم على ان لا يفقد الرجل في هذه المرة.

كان يلهث، وبالرغم مما كان يحسه من الاوجاع في جسمه كان يقفز ويعدو بكل قواه من وراء السيارة.

وابتعدت السيارة عن القرية وظهرت الصحراء ولكن بات يعدو ولا يكل.. ولحق السيارة مرتين ولكنه تخلف.. كان قد جمع كل قواه وقفز ووثب باستماتة.. الا ان السيارة كانت اسرع منه.

لقد اخطأ الحساب..

فالسيارة اسرع منه.. ثم انه كان يعاني ضعفا وانهيارا. وكان قلبه يدق بشدة..

واحس فجأة بأنه لم يعد قادرا على ان يتحكم باطرافه.. وانه عاجزعن اتيان اية حركة اخرى مهما تفهت.. وانه.. وان جهده هباء.

لقد نسي لماذا كان يعدو واين هو الان..

لم يكن يستطيع المضي في طريقه ولا التراجع عنه.. فوقف.. وتدلى لسان طويل من فمه.. واظلمت الدنيا امام عينيه. فاحنى رأسه وجر جسمه بعيدا عن الطريق العام، والصق بطنه بطبقة الصلصال الرطب في قعر الساقية.. واحس بفطرته التي لم تخطئه قط بأنه لن يستطيع مبارحة المكان.

ودار رأسه..

ولف الظلام والغموض ما يدور في رأسه من احاسيس وشقت عليه الآلام القاتلة التي كان يحسها في بطنه.. ولمع في عينيه ضوء بغيض.

وتشنج وانطوى ومال برأسه.. وفقدت اطرافه الحس شيئا فشيئاً..

ونضح بدنه عرقا باردا..

وكان منعشا ملذا..

وقبيل الغروب حلق ثلاثة غربان فوق رأس بات.. فقد شموا رائحته من بعيد.

وهبط احدهما، وحط بحذر على مقربة منه، وامعن النظر فيه. ولما ايقن ان بات لم يمت تماما بعد، طار الى رفاقه من جديد، وظلت الغربان تترصد ميتة بات لتقلع عينيه السوداوين.. عند الغروب.

 

علي اللقماني يترجم  صادق هدايت عام 1956

 تقديم -باسم عبد الحميد حمودي

كان الكتاب المترجم ايامها شبه نادر بالنسبة لجهد المترجم العراقي، وقل ذلك عن الكتاب المؤلف، اذ كان المؤلف والمترجم يعانيان كثيرا ليطبعا جهدهما ويسوقاه لدى دور النشر ولم تكن هناك جهة محددة تطلب الكتاب العراقي وتطبعه وتوزعه سوى بعض المكتبات الاهلية التي تطبع الكتاب المعروف رواجه مسبقا مثل كتب د.علي الوردي ودواوين حسين مردان لكن دور النشر العربية مثل دار المعارف بمصر وسواها ومكتبة العرفان في لبنان تقوم بطبع الكتب المضمون توزيعها اضافة الى دار نشر فرانكلن التي طبعت لمجموعة من المترجمين العراقيين المعروفين.

واذا علمنا انه في عام 1960 صدرت في بغداد روايتان عراقيتان فقط هما "المدينة تحتضن الرجال" لموفق خضر و"الايام المضيئة" لشاكر جابر طبعتا على نفقة المؤلفين لادركنا ضآلة حجم المطبوع العراقي انذاك.

وفي عام 1956 اقدم مترجم عراقي شاب هو علي اللقماني على ترجمة مجموعة من الروايات القصيرة مثل (ثلوج كليمنجارو) لهيمنغواي والقصص لجون كالزورثي (شجرة التفاح) و(ديموني) لبلاسكو ايبانز و(الكلب السائب) لصادق هدايت و(ليلة ربيع) لسلمى لاكروف و(الوردة الحمراء) للويجي بيراندللو وغيرها ونشرها مع مقدمة مهمة في 300 صفحة من القطع المتوسط وكان اللقماني قد ترجم (ثلوج كليمنجارو) قبل ان تظهر في بيروت بترجمة دار العلم للملايين وترجم قصة صادق هدايت قبل ان تنشر مرة اخرى بالعربية وكان بذلك يحقق سبقا معرفيا جادا لكن المشكلة الاساسية ان هذا الكتاب الجاد الذي شكل وجبة ثقافية جيدة لم يجد رواجا كبيرا برغم ان ثمنه كان (170) فلسا فاضطر المترجم الى ان يسوقه عن طريق الاهداء لمن (يرغب) في القراءة وان يكتب على غلافه بخط يده: (اهديه لاني لا اجد من يشتريه) واضطر علي اللقماني بعد هذه التجربة الى عدم تكرارها لكن الحظ باركه من جهة اخرى فقد ربح (خمسة آلاف دينار) هي الجائزة الاولى ليانصيب انشاء المستشفيات وهو مبلغ كبير جدا في حينه مكنه من شراء بيت لأهله.. من بيوت ذلك الزمان.

ونحن اذ ننشر مقدمة كتاب اللقماني (عصر القصة) نشير الى اهميتها النقدية في حينه وننشر معها قصة الكاتب الايراني المجدد صادق هدايت (1912- ) وقد ترجمها اللقماني عن الفارسية نشير الى اهمية جهد اللقماني الترجمي والنقدي الذي لم يلق رواجا في حينه.