النَّمِرُ الشُّجاعُ

أشرقت الشَّمسُ وعادتِ النَّمِرَةُ بكلِّ رشاقتِها وجمالِ جلدِها الأصفرِ المرقَّشِ بالأسودِ وصدرِها الأبيضِ الناصعِ، عادت إلى جِرائها بلهفةٍ وحبٍّ، بعدَ ليلةٍ طويلةٍ قَضَتْها بالجري والتعب لتؤمِّنَ الطعامَ للجميعِ. إنَّها فرحةٌ منتصرةٌ فقد اصطادتْ غزالاً سميناً سحبتْه بعد أن غَرَزتْ أسنانَها وأنيابَها الحادَّةَ الكبيرةَ في رقَبَتِه.‏

هي سعيدةٌ لأن الجِراءَ أتمَّتْ اليومَ ثمانيةَ أسابيعَ من عمرِها، وتستطيعُ أن تطعمَها اللحمَ أوَّلَ مرَّةٍ بعد أنْ كانت تُرْضِعُها طولَ المدة الماضية، وتلازمُها وتحافظُ عليها، وتدافعُ عنها ضدَّ أيِّ عدوٍّ مُحتملٍ، لأنّها صغيرةٌ جداً بحجم القطط، وعاجزةٌ تماماً عن البقاءِ وحدَها أو الدفاعِ عن أنفسِها. في البداية كانت خمسَ كِتَلٍ صغيرةٍ من اللحم المتحرِّكِ المتموِّجِ، تصطدمُ ببعضها بعضاً كلما تحركتْ لأنّها عمياءُ لا ترى أبداً، ولا تستطيعُ فتحَ أعينها. فتحَ بعضُها عينيه بعدَ خمسةِ أيامٍ، وبقيَ بعضُها الآخرُ حتى أصبحَ عمرُها اثني عشرَ يوماً.‏

كانت تفكِّرُ بها وهي تسحبُ الغزالَ، كيف ستطعمُها اللحمَ؟ كيف تتذوَّقُه؟ ينبغي أنْ تأكلَ اللحمَ اللذيذَ وتكبر بسرعةٍ، وتعتمدَ على نفسِها تماماً.‏

استقبلتْها الجِراءُ بأفواهٍ مفتوحةٍ، وكانت ثلاثةً فقط، سألتها: أين أخواكم؟... تلفَّتتِ الجِراءُ الثلاثةُ حولها دون أن تفهمَ شيئاً. فتَّشتِ النَّمِرَةُ الأمُّ عن جِرائها فوجدتها دونَ حَرَاكٍ. حزنتْ عليها كثيراً، سحبتْها وغطّتْها بأوراقِ الأشجارِ وأغصانِها، عادتْ ومزَّقتِ الغزالَ وأخذتْ تطعمُها، قالتْ لصغارِها بحنانٍ:‏

ـ كُلوا جيّداً.. وسترافقونني في نزهة بينَ الأعشابِ الطويلة. فرحتْ الجِراءُ الثلاثةُ، أكلتْ جيّداً، ثم مشتْ وراءَ أمِّها بخطواتٍ بطيئةٍ متعثِّرةٍ. كانت الأمُ تسيرُ أمامَها تفتحُ لها الطريقَ بين الأعشابِ والأشواكِ، تقفُ وتلتفتُ وراءها حتى يلحقَ بها الصغارُ، وترفعُ من تعثَّرَ وسقطَ منهمْ.‏

كانت النزهةُ لتعلِّمَها المشيَ والحذرَ، وكانت تقومُ بمناوراتٍ تشبه دروساً في الصيد، كأنَّها تروي للجراءِ حكاياتِ صيدِ الغِزلانِ والأرانبِ والماعزِ والطيورِ التي تعيشُ فوقَ الأغصانِ حيثُ تقفزُ إلى أن تصلَ إليها وتصطادَها. وهي في كلِّ ذلكَ تراقبُ صغارَها وتتهيأُ لحمايتِها من أيِّ عدوٍّ، وتفتخرُ بقوّتِها على نحوٍ عمليٍّ. وفي قفزةٍ مفاجئةٍ قالتْ النَّمِرَةُ لصغارِها: لقد قفزتُ أكثرَ من ستّةِ أمتارٍ لأصطادَ غُراباً كان يقفُ على غُصنٍ عالٍ في تلكَ الشَّجرةِ الباسقةِ. عندما تعبتْ الجِراءُ الصغيرةُ من السَّيرِ نامتْ بينَ الأعشابِ، وكانتْ الأمُّ متيقّظةً تدورُ حولَها وتحرسُها، وبقيتْ تفعلُ ذلك حتى استراحتِ الجراءُ، ثم أخذتْها إلى النهرِ لتشربَ وتتعلَّمَ الوصولَ إليه.‏

الجراءُ الصغيرةُ فخورةٌ جداً بأمِّها، وهي تعلِّمُها طريقةَ الاحتفاظِ بباقي الصيدِ بجانبِ الأشجارِ، وتغطّيه بأوراقها عندما تشبعُ، وتُخفيه عن الحيواناتِ المفترسةِ الأخرى.‏

كلَّ يومٍ بعد عودتها من صيدها الليليّ كانتْ النَّمِرَةُ الأمُّ تمرّنُ جِراءها على المشيِ والقفزِ والهجومِ استعداداً للصيدِ والدفاعِ عن النفسِ، حتّى أصبحتْ خطواتُها أسرعَ وحركتُها أرشقَ، ثمّ أصبحتْ تتسابقُ أمامّ أمِّها بالجري حتى تجاريَها، وهاهي ذي تناورُ وتهاجمُ بشجاعةٍ تزدادُ يوماً بعد يوم. بعدَ ذلكَ أخذتْ الأمُّ تعلِّمُها كيفيةَ الإمساكِ بالفرائسِ، وطرقَ المفاجأةِ والانقضاضِ على الفرائسِ بخفَّةٍ وحَذَرٍ وصمتٍ بحيثُ لا تشعرُ الفريسةُ ولا تتوقعُ ولا تحسُّ بوجودِها إلا وقد أصبحت بمتناوَلِها وقد انقضَّتْ عليها، وقَصَمَتْ عمودَها الفِقريَّ من الأعلى.‏

اليوم استطاعتْ الجراءُ صيدَ أرنبٍ وسلحفاةٍ بوجود أمِّها وتشجيعها. فرحتْ النَّمِرَةُ الأمُّ كثيراًً، لقد أصبحتْ الجراءُ الصغيرةُ تعتمدُ على نفسها في البحثِ عن الطعامِ والحصولِ عليه. ولكن مفاجأةً غيرَ سارَّةٍ وقعتْ في ذلكَ اليومِ، لقد سقطَ جَروٌ صغيرٌ في النهرِ، وجرفَه التيارُ القويُّ، ولم يستطعْ السباحةَ ولم تستطعْ أمُّه إنقاذَه على الرغم من كلِّ ما بذلتْه من محاولاتٍ مستميتةٍ، إذ كلُّ محاولاتِها باءتْ بالإخفاقِ، وجرفَ النهرُ أحدَ صغارِها أمامَها دونَ أن تقوى على إنقاذِه. لم يبقَ لها سوى جروين، وعليها أنْ تحافظَ عليهما وأن تدرِّبَهما جيّداً، والتدرُّبُ على السباحة هامٌّ، فالنهرُ عدوٌّ أيضاً إذا لم نحسنْ السباحةَ. أخذَ الجروانِ الباقيانِ كلَّ اهتمامِ النَّمِرَةِ الأمِّ، وفي رحلةِ تدريبٍ وصيدٍ خرجَ النَّمِرَانِ الصغيرانِ مع أمِّهما وجريا أمامَها في الحقولِ يبديانِ مهارةً وشجاعةً ملحوظتين. وكانتْ كلَّ فترةٍ تناديهما وتحذّرهما بألاّ يبتعدا عنها. كانا جميلينِ رشيقينِ يلعبانِ تحتَ أشعّةِ الشّمسِ الدافئةِ، لا يَمَلاّنِ من الجريِ والقفزِ، كان أحدُهما ذا وجهٍ ورديّ باسمٍ، والآخرُ ذا وجهٍ أبيضَ ضاحكٍ وأنفٍ أسودَ دقيقٍ، وعينينِ واسعتينِ ولكنْ على سعتِهما لا يتمتّعُ بحاسةِ بصرٍ ثاقبةٍ، إلا إنّه يمتلكُ حاستيْ شمٍ وسمعٍ قويتين جداً مثل أخيه الذي يتمتّعُ بالمواصفاتِ ذاتِها.‏

كان النَّمِرَانِ الصغيرانِ يبتعدانِ أكثرَ عن والدتِهما يوماً بعدَ يومٍ، ويحاولان كلَّ يومٍ الابتعادَ أكثرَ وهما يجريانِ بسرعةٍ، ويقومانِ بتمارينِ المطاردةِ والهجومِ والانقضاضِ المفاجئِ.. يلعبانِ ويتعاركانِ تحتَ نظر أمّهما ويستكشفانِ بنفسْيهما كل ما حولَهما. كانت الأمُّ تخافُ عليهما ولذا أوصتْهما بأنْ يلعبا على مَرْمى نظرِها وقريباً منها. وأخذتْ تروي لهما الحكاياتِ التي يتعرَّضُ لها الصغارُ، إذ لا يكفي أن تكونَ سريعاً وقوّياً فلا بدَّ من الخبرةِ.‏

جلسَ النَّمِرَانِ الصغيرانِ يستمعانِ لكل كلمة تقولها أمُّهما بكثيرٍ من الاهتمامِ والانتباهِ لأنّهما يحبانِها كثيراً ويثقانِ بها. قالتْ لهما:‏

ـ احذرا الأعداءَ.‏

ـ ما الأعداءُ يا أمي.؟. ومَنْ هم الأعداءُ؟ ماذا يريدونَ منّا.؟ كيف نعرفُهم؟ نحنُ نلعبُ فقط ولا نسبِّبُ الأذى لأحدٍ، حتى إننا لا نقتربُ من أحدٍ.‏

قالتْ بتفكيرٍ ومكرٍ: ولكنَّ هذا لا يمنعُ الأعداءَ من الاعتداءِ عليكما.‏

ـ قال ذو الوجهِ الأبيضِ الضاحكِ والأنفِ الأسودِ: كيفَ هذا؟ و لماذا؟ نحنُ قويانِ ونستطيعُ أن نهاجمَهم.. إذا كانوا لا يعرفوننا ولم يرونا فلماذا يعتدونَ علينا ويؤذوننا.؟‏

ضحكتِ الأمُّ لتهدئَ من روعِهما: هذا صحيحٌ.. أنتما صغيرانِ وقد تبدوانِ طيّبينِ جداً، ولكن لا بدَّ من الدخولِ في خِضَمِّ الحياةِ: أنتَ تهاجمُ وتدافعُ.. لتعيشَ وتبقى.. هناك من يريد أن يقتلَكَ، وهناك أيضاً من تريدُ أن تأكلَه، إنّها الغابةُ وقانونُها في الحياةِ. الإنسانُ مثلاً يطمعُ بجلدِكما الذهبيِّ المرقّشِ الرائعِ.‏

ـ أليسَ لبني الإنسانِ جلودٌ؟.‏

هزّتْ الأمُّ رأسَها بأسفٍ وقالت: إن لهم جلوداً تختلف، الإنسانُ يأخذُ جلدَكم ويُخِيطُ منه معاطفَ جميلةً وقبعاتٍ دافئةً.‏

ـ ألا يكفيه جلدُه؟..‏

ـ هو يشعرُ بالبردِ أيامَ الصقيعِ والبردِ والثلجِ في الشتاءِ، فيأخذُ جلدَ النَّمِرِ ليقاومَ به البردَ، أو يأخذَه للزينةِ والتفاخرِ بجمالِه.‏

ـ نحن نهاجُمه أيضاً، ونأخذُ جلَده.‏

زفرتْ الأمُّ بألمٍ وسَرَّحَت نظرَها بعيداً: هذا ما حصلَ مع والدكما منذ أقل من عامٍ، فبينما كان يمرحُ ويتسلّقُ الأشجارَ ببراعةٍ، جاء إنسانٌ يمشي على اثنتين، منتصباً، يحملُ خشبةً طويلةً، في نهايتها أنبوبٌ حديديٌّ أسودُ: طاخْ.. طاخْ... لمعَ برقٌ، ثم صوتٌ قويٌّ. وقعَ المسكينُ مضرّجاً بدمِه، سارعَ الإنسانُ إليه وربطَه وسحبَه، علَقَه بجنازيرَ، وسلخَ جلدَه.‏

نزلتْ غمامةٌ من الحزنِ على وَجْهَيْ الصغيرينِ، فأخذا يفكّران بهذا الإنسانِ الذي حرمَهما من والدِهما، قبلَ أن يريا النورَ، ووعدا والدتَهما أن لا يبتعدا عنها كثيراً.‏

سألها ذو الوجه الورديِّ:‏

ـ وهل هؤلاء الأعداء يخشونك، ولا يقتربونَ منَّا، عندما نكونُ معك...؟.‏

قالتْ الأمُّ بحزنٍ وتسليمٍ: مع الأسفِ، لا، ولكن عندما تكونان معي سنكونُ أكثرَ قوّةً، وندافعُ عن أنفسنا، ويحمي بعضُنا بعضاً.‏

تدخَّل النَّمِرُ ذو الوجهِ الأبيضِ الضاحكِ والأنفِ الأسودِ قائلاً:‏

ـ نحن أقوياءٌ. أنا أقوى من الثعلبِ والأرنبِ والغزالِ و...‏

قفزَ يستعرضُ عضلاتِه وقوتَه، واقترب من أمِّه أكثرَ، التصقَ بها، يستمدُّ القوةَ منها، لأنّه كان خائفاً رغم ذلك، وكان يودّ أن يسمعَ إطراءها له.‏

ـ نعم أنتما قويان، وستصبحان أكثرَ قوةً، وكثيرونَ همُ الذين يخشونَكما لكنّ الإنسانَ هو الأقوى، الجميعُ يخشونه.‏

ـ الإنسانُ. الإنسانُ. دائماً الإنسانُ. لقد قلتُ عنه في حكايةِ البارحةِ، إن الهرَّ الذي هو من فصيلتنا يعيشُ معه بسلامٍ، وفي بيته، يشاركُه حياتَه، يُدلِّله ويطعمُه ويعطفُ عليه.‏

ـ نعم، روّضَه وأدّخلَه بيتَه.‏

ـ أمّاه. صِفيْ لنا الإنسانَ لنعرفَه ونبتعدَ عنه عندما نراه.‏

ـ إنّه يمشي منتصباً كما قلتُ، ويرفعُ الأماميّتينِ، إلى الأعلى... هكذا... ورفعتْ قائمتيها الأمامَيتينِ، وتركتْهما سائبتينِ. ضحكَ الصغيرانِ كثيراً عندما رفعتْ أمُهما قائمتَيها الأماميّتينِ.‏

تابعتِ الأمُّ: لا يمشي على أربع مثلنا، إلا عندما يكونُ صغيراًً جداًً يحبو.‏

سألَ ذو الوجه الورديِّ الباسمِ:‏

ـ هل هو كبيرٌ جداً بحجمِ هذا الجبلِ. وهل أظافُره طويلةٌ وحادةٌ كالصخورِ المدببةِ، وهل أسنانُه حادةٌ كأطرافِ الماءِ المتجمّدِ الرقيقةِ. وهل عيناه باتساعِ تلكَ البحيرةِ؟ وهل يداه طو....‏

أخذَ يلهثُ:‏

ـ لا.. أبداً، أبداً‏

قالتْ الأمُّ:‏

ـ إذنْ لماذا نخافُ منه، عندما نراه سنقتربْ منه ونحدّثُه، ونلعبُ معه ولن ندعَه يقتلُنا. سأهجمُ عليه، وآخذُ الخشبةَ الطويلةَ منه.‏

عندما رأتْهما خائفينِ، منفعلينِ، مسحتْ على رأسيهما وضمَّتهما وقالتْ: يا صغيريَّ، لا تخافا، قد لا تصادفانِه أبداً، هو يخافُ منا أيضاً، ولكني أنبّهكما فقط، لتأخذا حَذَرَكما.. فلنا أعداءٌ مثلَما لكلِّ مخلوقٍ أعداءٌ.‏

اطمأنّا وضحكا، ثم انطلقا يتسابقانِ حتى غيابِ الشمسِ.. ناما وهما يفكرانِ بالأعداءِ والإنسانِ، ويرسمانِ بمخيلتهما الصغيرةِ عشراتِ الصورِ المخيفةِ، والمعاركَ البشعةَ مع الأعداءِ، لذلك كان نومُهما قلقاً مضطرباً.‏

استيقظا قبلَ الفجرِ، واتفقا على أن يخرجا قبل أن تستيقظَ أمُّهما المتعبةُ من الصيدِ، ليفتشا عن هذا الإنسانِ الذي عكّرَ صفوَهما ومرحَهما وحرمَهما من النومِ. وما إن خرجا وابتعدا قليلاً حتى خافَ ذو الوجهِ الورديِّ وعادَ راكضاً لينامَ في حضنِ أمّهِ الدافئ، ولكنَّ ذا الوجهِ الأبيضِ الضاحكِ والأنفِ الأسودِ استمرَّ، لأنّه كان مُصرّاًً على أن يتعرفَ على الإنسانِ ويواجهَه. فقد أقنعَ نفسَه بألاّ يخافَ منه مطلقاً، سيتكلمُ معه، سيحتالُ عليه.. سيقولُ لـه إنّه يحبُّه وأنه يجبُ أن يلعبَ مع إنسانٍ صغيرٍ ويصبحا صديقينِ.‏

مشى طويلاً حتى تعبَ، وجدَ حماراً ينهقُ عند أطرافِ الحقولِ مع بزوغِ الشمسِ، ويتردّدُ صدى صوتِه في البريّةِ، سلّم عليه من بعيدٍ وسألَ: هل أنتَ الإنسانُ.؟‏

ضحكَ الحمارُ حتى بانت أسنانُه الخلفيةُ، ضحكَ معه النَّمِرُ الصغيرُ.. قالَ الحمارُ: أتمنّى هذا.. أنتَ ترفعُني إلى مرتبةٍ ساميةٍ، ترفعني إلى مرتبةِ الإنسانِ. ثم رفعَ الحمارُ رأسَه بقليلٍ من الكبرياءِ، وقال: نعم أنا خادمُ الإنسانِ.. خادمُه المطيعُ الذي لا يخالفُ لـه أمراً. أقضي نهاري أحملُ الأثقالَ والمحاصيلَ بين البيتِ والحقلِ، يركبني وإذا تعبتُ أو قصّرتُ لكزَني في خاصرتي وضربَني. وهو يكيلُ لي كلَّ أنواعِ السبابِ، ولا يرحُمني أبداً حتى لو كنتُ في غايةِ التعبِ.‏

ـ لماذا تقبلُ كلَّ هذا وتسكتُ عليه ولا تحتجُّ؟.‏

بكى الحمارُ، وقال له: أرجوكَ، اتركني، لا تفتحْ جروحي وتزِدْ من ألمي وعذابي، فأنا لا أستطيعُ إلاّ أنْ أكونَ هكذا، مطيعاً، أعملُ طولَ النهار بكل نشاطٍ لأرضيَ ذلكَ الإنسانَ.. إنّه عجيبٌ غريبُ الأطوارِ.. ومع هذا فإنّه طيبٌ، يطعمُني ويَسقيني ويُراعيني، ويتركُني أبيتُ في الحظيرةِ مع رفاقي آمناً.‏

ـ ألا تستطيعُ أن تؤمِّنَ طعامَك بنفسِك مثلي؟..‏

صمتَ الحمارُ وابتعد باكياً متسائلاً: لماذا يسألُ هذا النَّمِرُ الصغيرُ مثلَ هذه الأسئلةِ العقيمةِ التي لا تنفُع ولا تفيُد؟‏

مشى النَّمِرُ يكلمُ نفسَه: ما هذا الإنسانُ الذي لا يرحمُ، سأراه وأتفاهمُ معه وسأستعطفُه وأثيرُ نخوتَه كي يتركَ الحمارَ يعيشُ كما يحلو له.‏

رأى أرنباً صغيراً جميلاً، أبيض اللونِ، يركضُ مسرعاً، ناداه:‏

هيه أيها الأرنبُ... تعالَ أريدُ أن ألعَب معك.‏

أجابَه الأرنبُ وهو يعدو: متى كانت الأرانبُ تلعبُ مع مثلك؟.. ابتعْد عني.. ألا يكفي أن الإنسانَ يطارُدني ويريُد أن يصيدَني.‏

انعطفَ الأرنبُ بسرعةٍ واختفى بينَ الحشائشِ.‏

أحسَّ النَّمِرُ الصغيرُ بالجوعِ، ركضَ يبحثُ عن الأرنبِ، لكنَّ الأرنبَ كان قد اختفى تماماً. وقف النَّمِرُ لاهثاً وهو يتمنّى لو أنّه اصطادَ الأرنبَ وأكلَه ليُسْكِتَ جوعَه.‏

مشى النَّمِرُ طويلاً قلقاً.. رأى جملاً كبيراً فقالَ لنفسِه: آه. الآنَ وصلتُ، لابدّ أنّه الإنسانُ. لم أرَ أكبرَ منه، ولا أطولَ عنقاً، صَرخَ بأعلى صوتِه: هيه أنتَ.. هل أنتَ الإنسانُ؟!...‏

ببطءٍ وتأنٍ أدارَ الجملُ وجهَه باتجاهِ الصوتِ وهَدَرَ هَدْرَةً خفيفةً، وردَّ بصوتٍ أجشَّ، وعيناه تدمعانِ من شدةِ التعبِ والسهرِ: ـ إنّ ما تدعوني به شيءٌ جميلٌ، لكن أنا الجملُ الصابرُ على الجوعِ والتعبِ، أنا سفينةُ الصحراءِ، هكذا يدعونني، أبقى أياماً طويلةً دونَ طعامٍ أو ماءٍ، تكفيني بعضُ الأشواكِ الجافّةِ، أحملُ للإنسانِ كلَّ ما يريدُ أن يحملَه من أمتعةٍ وغلالٍ، ويركبُ على ظهري لمسافاتٍ طويلةٍ، يُقحمني في السباقِ، يتسلّى برؤيتي أعدو، ويراهنُ عليَّ، ويجزُّ وبَري يصنعُ منه الخيامَ والعباءاتِ. ويذلُّني أحياناً.‏

سألَ النَّمِرُ الصغيرُ باستنكار:‏

ـ كيفَ يفعلُ؟..‏

قالَ الجملُ: يربطُ رأسيَ إلى ذيلِ الحمارِ الغبيِّ ويتركُه يقودُني ويسيرُ أمامي، هذا ما يغيظني أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر. يذبحُني عندما يريدُ، ويأكلُ لحمي، ويسلخُ جلدي ويقطِّعه، ويصنعُ منه أحذيةً وحقائبَ ومقاعدَ وما يشاءُ.. وكل ذلك أهونُ عليَّ من أنْ يربطَني إلى ذنبِ الحمارِ.‏

ـ ماذا..؟!..‏

قال النَّمِرُ الصغيرُ بخوفٍ:‏

قال الجملُ وهو يلوكُ شوكةً: أنتَ ما زلتَ صغيراً... من يستطيعُ أن يقاومَ الإنسانَ أو يرفضَ له طلباً؟!.‏

حزنَ النَّمِرُ على الجملِ وحالِه، وعظُمَ شأنُ الإنسانِ بنفسه، واشتدَ شوقُه لرؤيته. وأخذَ يرسمُ في خياله صورةً لآكلِ لحومِ الحيواناتِ هذا وسالخِ جلودِها ومُذِلِّها.‏

تعبَ كثيراً من المشي وجاعَ يريدُ أن يأكلَ، ولكنْ كيف؟.. لا بد من البحثِ عن فريسةٍ. فجأةً انبعثَ صوتُ طائرٍ بقربِه، وبعدَ دقائقَ كان يستمتعُ بلحمه الطريِّ. شبعَ النَّمِرُ الصغيرُ، ومضى مسرعاً.. يبحثُ عن الإنسانِ، أوغلَ في الغابةِ ووجدَ نفسَه أمام فيلٍ كبيرٍ ذي خرطومٍ طويلٍ بالقرب من بِركةِ ماءٍ. توقّف يراقبه وقد دبَّ الخوفُ في قلبه، وأخذَ يرتعدً، إنّه ضخمٌ جداً وهائلُ الجسمِ وقويٌّ، قال لنفسه: لا بدّ أنّه الإنسانُ، سأقتربُ منه بخفّةٍ وهدوءٍ وحذرٍ من دون أن يراني، كما علّمتني أمّي تماماً وأظنّ أنّه لن يقتلَني ولنْ يفلتَ من قبضتي. اقتربَ منه كثيراً سلَّمَ عليه بأدبٍ جمٍّ.. وهو يرتجفُ أمامَه. أحسّ بثقلِ جسمِه، تراختُ أطرافُه، وأصبحتْ ضعيفةً لا تحملُه.‏

ردَّ الفيلُ السلامَ بتعالٍٍ.‏

قالَ النّمِرُ الصغيرُ بصوتٍ منخفضٍ وأدبٍ:‏

ـ أودُّ التعرّفَ عليك أيُّها الكبيرُ المحترمُ، تركتُ أمّي وأخي من أجلِ أن أتعرفَ عليك، ألستَ الإنسانَ؟.‏

ضحكَ الفيلُ حتى اهتزّتْ خاصرتاه، ورفعَ خرطومَه إلى الأعلى، وبانَ نابُه الكبيرُ جليّاً.‏

بكى النَّمِرُ الصغيرُ خوفاً وهَلَعاً عندما رآه يرفعُ خرطومَه.. ظنَّه الخشبةَ الطويلةَ التي تكلمتْ أمُّه عنها، وماتَ بها أبوه.‏

قال الفيلُ:‏

ـ لا تخفْ يا صغيري، هدِّئْ من رَوعِك، أنا الفيلُ. الإنسانُ لا يشبهُني بشيءٍ، إنه جميلٌ، يمشي منتصباً شامخاً مختالاً، لـه رأسٌ يكسوه شعرٌ أسودُ أو أشقرُ أو أحمرُ أو أبيضُ.. يبدو لك لطيفاً وديعاً، خاصةً إذا كانتْ له غايةٌ أو مصلحةٌ يريد تحقيقَها.. ولكنّه..‏

ـ وهل هو أقوى منك؟..‏

سألَ النَّمِرُ ذو الوجه الضاحك الذي لم يبقَ ضاحكاً أبداً.‏

ـ مع قوتي التي تراها أنا أمامَه مغفلٌ ضعيفٌ لا أقوى على شيءٍ فهو يركبُ على ظهري، ويحمِّلُني أثقالَه، ويسجنُني في حدائقِ الحيوانِ، يسخرُ مني، ويجعلُني فرجةً لمنْ يريدُ. يقتلني ليأخذَ جلدي، يصنعُ منه الأحذيةَ والحقائبَ الجميلةَ، ويصنعُ من نابي مقابضَ عاجٍ للسكاكين الفاخرةِ والسيوفِ الأنيقةِ والمظلاتِ وأزراراً لثيابه وحلقاً وأطواقاً وأساور للزينة. وأتعلمُ كلَّ ما يريدُ أنْ يعلِّمَني إيَّاه... أحاربُ معه، يسوقُني أمامَه لأتلقّى كلَّ الضرباتِ بجسمي، أفعلُ كلَّ ما يطلبُه.‏

قالَ النَّمِرُ بخوفٍ:‏

ـ إنّك كبيرٌ وقويٌّ بما فيه الكفايةُ، من هو الأقوى منك لينقذَ الجميعَ من سطوةِ الإنسانِ وظلمِه.‏

ـ يا صغيري، لا تشغلْ رأسَك الجميلَ بهذا، ليس في هذا العالمِ من هو أقوى من الإنسانِ، إنّه الأقوى، أقوى من الوحوشِ والحيواناتِ، أقوى من الجبال والرياحِ والعواصفِ أقوى من النارِ والثلجِ والمطرِ والقمرِ.‏

ارتجفَ النَّمِرُ وكادَ يُغمى عليه من الخوفِ، ومع هذا بدا عازماً ومصرّاً على أن يرى الإنسانَ الذي أخذَ يشغلُه ويقلقُه ويخيفُه جداً. وصلَ إلى بستانٍ فوقفَ وراءَ سياجِه ينظرُ إلى بقرةٍ كبيرةٍ حمراءِ اللونِ، ترعى العشبَ وتأكلُ بِنَهَمٍ زائدٍ وتلذذٍ، تظلّلها الأشجارُ وتنسابُ ساقيةُ ماءٍ قريباً منها.‏

قال النَّمِرُ:‏

ـ آه إنّه مدلّلٌ مرفَّهٌ.. ماءٌ وظلٌّ وعشبٌ أخضرُ وراحةٌ.. كلُّ شيءٍ متوفرٌ لـه، لقد عثرتُ عليه، إن شعرَه أحمرُ ولكنّه غيرُ منتصبِ القامةِ؛ إنه يبدو في حالةِ راحةٍ.‏

شدّ عضلاتِه فأعجبَته قوتُّه، صاحَ بصوتٍ مرتفعٍ وهو يتصنَّعُ القوةَ:‏

ـ هل أنتَ الإنسانُ؟.‏

أرسلَتِ البَقَرَةُ خُواراً قويّاً، وظهرَ العشبُ الأخضرُ الطريُّ الذي يحشو فمَها. ارتختْ قوائمُ النّمِرِ قليلاً وجثمَ على الأرضِ ينتفضُ خوفاً ويتحفّزُ لمواجهةِ الاحتمالِ الأسوأ.‏

ـ أنا البَقَرَةُ التي تُقدِّمُ لـه الحليبَ ليشربَه ويصنعَ منه اللبنَ والقشدةَ والجبنَ والزبدةَ، ألِدُ لـه العجولَ ليسمِّنَها ويذبحَها ويأكلَ لحمَها. يدلّلنُي الإنسانُ، ويطعُمني لأعطيَه أكثرَ، ثم يذبحُني متى شاءَ ليأكلَ لحمي، ويصنعَ من جلدي حقائبَه وأحذيتَه ومفروشاتِه الجلديةَ ومعاطفَه.‏

ـ بأيِّ حقٍّ يصنعُ ما يصنعُه؟.. من الذي أطلقَ يدَه في المخلوقاتِ هكذا؟.‏

وقفَ على قائمتيه الخلفيتينِ بعد أن استردَّ قوتَه وزالَ خوفُه، وأرسلَ صوتاً قوّياً يذكَرُ بزئيرِ الأسدِ.‏

خارتْ البَقَرَةُ بِضَجَرٍ وقالتْ:‏

ـ ما لي ولهذا، اسألْه هو.‏

وعادتْ لتقضمَ المزيدَ من العشبِ الطريِّ بلا اكتراثٍ.‏

أحسّ النّمرُ بالتعبِ والجوعِ.. لقد ابتعدَ كثيراً عن أمِّه وأخيه واشتاقَ إليهما، اشتاقَ للمرحِ والجريِ والصيدِ معهما، وخشيَ أن يُضيعَ الطريقَ إليهما ولا يستطيعَ العودةَ، شعرَ بالذنبِ والندمِ والخوفِ لابتعادهِ وعدمِ التزامِه بنصائح أمِّه وما قالَتْه له وما أخذتْ منه وعداً بتنفيذِه. لا بدَّ أنّها قلقةٌ عليه وتبحثُ عنه في كلِّ مكانٍ.. لماذا فعلَ ما فعلَ؟.. ارتعدَ قليلاً وتمنّى لو أنّه إلى جانبها، وفكّرَ بالعودةِ إليها.. ولكنَّ صوتاً غيرَ معتادٍ قطعَ سلسلةَ أفكارِه، إنَّه صهيلُ حصانٍ. لقد رأى من بعيدٍ حصاناً أشقرَ يتموَّجُ جلدُه الرقيقُ تحتَ أشعةِ الشمسِ، يختالُ بكبرياءٍ، ويبدو رشيقاً، جميلاً، عاليَ الرأسِ. قال النِّمرُ الشجاعُ: الآن وجدتُه، إنّه هو بذاتِه، الإنسانُ، كم هو جميلٌ مدهشٌ وقويٌّ. مشى نحوَه وابتسمَ له، وقال بتواضعٍ جمٍّ وقد أطرقَ برأسِه:‏

ـ إنّني أبحثُ عنكَ ـ بَلَعَ ريقَه واستدركَ ـ لا لشيءٍ، فقط لأتعرّفَ عليك، وعلى مواهبِكَ وصفاتِكَ، ولأسألكَ بعضَ الأسئلةِ، إذا تكرّمْتَ بالإجابةِ عليها.‏

قال الحصانُ:‏

ـ تفضلْ سأفعلُ ما أستطيعُه.‏

ـ أشكرُ لكَ لطفَكَ وتفهُّمَك، هل أنتَ الإنسانُ؟.. هذا سؤالي الأولُ للتأكدِ.‏

ابتسمَ الحصانُ وصهلَ، ودارَ دورتينِ وهو يضربُ الأرضَ بقدميه، وعادَ ليواجهَ النَّمِرَ الصغيرَ الذي كانَ متلهِّفاً ليسمعَ الإجابةَ.‏

ـ هذا شرفٌ كبيرٌ لي.. شرفٌ كبيرٌ أنْ أكونَ الإنسانَ.. ولكنْ أنا الحصانُ صديقُ الإنسان المفضَّلُ، إنّه يحبُّني، ويفخرُ بي. يطعمُني بيديه، ينظِّفُني ويغسلُني بالماءِ والصابونِ ويكسوني كسوةً جميلةً.. يزيِّنُني بأحلى زينةٍ، يمتطي ظهري ويمارسُ معي رياضةَ الجريِ، نتنزّهُ معاً ونحاربُ الأعداءَ معاً، ويراهنُ عليَّ في حلقاتِ السباقِ، يطعمُني اللوزَ والسكرَ وألذَ المأكولاتِ وأنظفَ تِبْنٍ وأجودَ شعيرٍ ليس مع بقيةِ الحيواناتِ وإنما وحدي. أنا أحبُّه كثيراً، أربطُ مصيري به، وعندما أعجزُ أو أمرضُ أو أصابُ بأيِّ حادثةٍ لا يتوانى عن إطلاقِ النار عليَّ وقتلي.. إنَّه يفعلُ ذلك شفقةً بي وعليّ.‏

حزنَ النَّمِرُ ويئسَ وسألَ الحصانَ: كيف السبيلُ لأصلَ إلى الإنسانِ، هذا الجبارِ العتيدِ المتغطرسِ الذي لا يوفِّرُ أحداً، وليس له من أصدقاءٍ إلا نفسه؟.‏

ضربَ الحصانُ الأرضَ بحافريهِ الأماميينِ وصهلَ بقوةٍ، وقال بغضبٍ:‏

ـ لماذا تقولُ عنه إن جبارٌ متغطرسٌ؟.. بأيِّ حقٍّ تسمحُ لنفسِك بمهاجمتِه، إنّه صديقي الذي أقدِّمُ لـه حياتي، ولا أسمحُ لأحدٍ بأنْ يذمَّه أو ينالَ منه بالكلامِ أو بغيره، اغرُبْ عن وجهي أيها الـ.‏

ضبطَ النِّمرُ غريزتَه الهجوميةَ، وكتمَ زمجرةً قويةً وهو يقولُ:‏

ـ عفواً أيها الحصانُ.. أرجوكَ، أنا آسفٌ لما بدرَ مني، أنا أفتّشُ عنه لأنّني أحبُّه وأريدُ أن أتفاهمَ معه، أرجوك دلَّنّي عليه.‏

قال الحصانُ بطيبةٍ وتفهُّمٍ:‏

ـ انتظرْ قليلاً، وسيأتي إلى هنا وتراهُ.‏

فَرِحَ النَّمِرُ وشكرَ الحصانَ وانتظرَ بحذرٍ شديدٍ.. أخيراً سيصلُ إلى غايتِه، وسيرى الإنسانَ وجهاً لوجهٍ، ويتعرّف عليه عن قربٍ. سيكلّمُه، كما يكلّمُه صديقُه الحصانُ، وسيطرحُ عليه أسئلةً محرجةً تجعلُه يخجلُ ويتراجعُ عن كلِّ أفعالِه. ستفرحُ الوحوشُ والحيواناتُ كثيراً بما قامَ به النَّمِرُ الصغيرُ ذو الوجهِ الأبيضِ الضاحكِ والأنفِ الأسودِ الجميلِ. سيصبحُ مشهوراً تعتزُّ به أمُّه ويفخرُ به أخوه، ويَذيعُ صيته في الغاباتِ والبراري والسهولِ، بينَ الوحوشِ والحيواناتِ والطيورِ، وسوفَ يحبُّه الجميعُ، وقد ينحتونَ له تمثالاً جزاءَ عملِه الجيدِ الشجاعِ، سيصبحُ بطلاً كبيراً، لأنّه واجهَ الإنسانَ، وأقنعَه بما لم يستطعْ أحدٌ قبلَه إقناعَه به.‏

أفاقَ من أحلامِه وتأملا تِه مُنتشياً رافعَ الرأسِ، وسألَ الحصانَ بعزّةٍ وشموخٍ:‏

ـ هل يصلُ رأسُ الإنسانِ إلى تلكَ السحابةِ.؟‏

ـ لا.‏

ـ قال الحصانُ مستغرباً.‏

ـ وهل يستطيعُ الدخولَ من ذلكَ البابِ الكبيرِ؟‏

ـ وأشارَ إلى بابِ الحظيرةِ.‏

قال لـه الحصانُ:‏

ـ إنّه أصغرُ مني حجماً، ولكنّه ذكيٌ وقويٌ.‏

ـ أقوى منكَ أيُّها الحصانُ!‏

ـ أقوى مني بكثيرٍ.‏

ـ كيف يكونُ أصغرَ منك حجماً ويكونُ أقوى منك؟.‏

ـ إنه قويٌّ بعقله، وعلمه وفَهْمِه وعملِه وحيلتِه.. إنّه ماهرٌ ماكرٌ يرسمُ الخُططَ ويجيدُ التنفيذَ.‏

ـ وما هو عقلُه ؟‏

ـ قد لا تعرفُه ولن تعرفَه، إنّه سلاحُه الذي يجعلُه أقوى من الجميع، إنّه يفكرُ، يرسمُ ما يريدُ بدقّةٍ وينفّذُ ويسخِّرُ كلَّ شيءٍ لمصلحته، ومن يفكّرْ جيداً لا يُغلب أبداً. الإنسانُ لطيفٌ رقيقٌ يَقِظٌ.‏

ـ ألا يغلبُه الجبلُ أو النارُ أو الرياحُ أو الـ..؟‏

ـ لا، هو غلبَها مجتمعةً وسخرّها لخدمتِه، سخَّرَ النارَ ليتدفأ بها ويطبخَ عليها طعامَه، ثم استعملَها في الصناعةِ، وسيطرَ عليها كلّيا، فهو يوقدُها متى أرادَ ويطفئها متى أرادَ أيضاً.. النارُ ذاتُها لا تستطيُع أنْ تعترضَ أو تتجاوزَ حدودَها التي يرسمُها لها، يرفعُها ويقوّيها ويخفضُها على مزاجِه، وإن تمرّدتْ أحياناً مسببةً الحرائقَ، فإنّه يسيطرُ عليها بقوّةٍ ويُخمدُ أنفاسَها، والرياحُ سخّرها لخدمتِه كذلكَ، إنّها تديرُ ما صنعَه من عنفاتٍ بقوّتها، وتسحبُ له الماءَ من أعماقِ الأرضِ، وتطحنُ له الحبوبَ، وتدفعُ أشرعةَ سفنِه في البحارِ وتصنعُ له أشياءَ كثيرةً أخرى.‏

والأنهارُ سيطرَ عليها، إنّه يشربُ منها، ويسقي مزروعاتِه وحيواناتِه، يستحمُّ بمياهها، ويستعملُها لنقلِ بضائعهِ وأخشابِه، ويحجزُها خلفَ سدودٍ عاليةٍ متينةٍ يمنعُها من الجريانِ على هواها، ولا يسمحُ لها بالجريانِ إلا وفقَ ما يريدُ، إنه يفتح فوّهات السدودِ ويتحكّم بالماءِ ليستفيدَ منه عند الحاجةِ.‏

قال النَّمِرُ متفكِّراً:‏

ـ ولكنْ كيفَ يغلبُ الإنسانُ هذا الجبلَ الشامخَ الصامدَ؟..‏

ضحك الحصانُ وحاولَ أن يجيبَ على تساؤلاتِ النَّمِرِ الجميلِ وقال لـه:‏

ـ إنك تُكثرُ من الأسئلةِ لماذا؟ ولكنْ سأشبعُ فضولَكَ، إنه يحفرُ فيه الأنفاقَ ويسيّر القطاراتِ والسياراتِ، يكسِّرُ صخورَه، يستعملها لبناءِ بيوتهِ ورصفِ الأرصفةِ والشوارعِ والحدائقِ ويزرعُ فيه الأشجارَ ويبني البيوتَ.‏

صهلَ الحصانُ ودارَ عدةَ دوراتٍ والنّمرُ مأخوذٌ بكلِّ ما يسمعُ.‏

ـ لم تحدِّثْني عن الأشجارِ كيف.. يا..‏

ـ الأشجارُ.. إنّه يأخُذ ثمارها وأزهارَها، ويستظلُّ بظلِّها، ويربطُ حيواناتِه بها، ويضعُ أراجيحَ أطفالِه إذا رغبوا في ذلك، ثم يقطِّعها ليصنَع منها الأثاثَ والزوارقَ والكثيرَ من الحاجياتِ، ويحرقُها ليتدفأ عليها. أخذَ الحصانُ نَفَساً عميقاً وتابعَ:‏

ـ والبحرُ طوعُه، إنَّه يأخذُ منه السمكَ ويستخرجُ اللآلئَ، يستخدمُه لركوبِه وتنقلاتِه بواسطةِ البواخرِ الكبيرةِ، يسبحُ في مياهِهِ ويستمتعُ بجمالِهِ. الإنسانُ يأكلُ الحيواناتِ والطيرَ والسمكَ والنبات أيضاً، انظر إلى الأعلى، نظرَ النَّمِرُ إلى الأعلى مُتسائلاً: ألا تعرفُ الكواكبَ والنجومَ؟..‏

قال النَّمِرُ:‏

ـ أعرُفها جيداً، عندما كنت مع أمي كانت تحدّثُني كثيراً عنها، وأنظرُ إليها.‏

ـ لقد انطلقَ الإنسانُ إليها يستكشفُها، لم يتركْها بحالها. إنّه يبحثُ فيها، ينقّبُ ويدرسُ ليسيطرَ عليها ويضعها في خدمتِه، لقد سيطرَ على الأرضِ والجوِّ والبحرِ والكواكبِ.‏

قال النَّمِرُ حائراً:‏

ـ إن كلَّ ما قالتْه أمّي عنه حقيقةٌ ولكنَّها ناقصةٌ، إنَّ ما سمعتُه عنه أكثرُ بكثيرٍ مما قالتْه أو مما تعرفُه.‏

ولكنْ يا عزيزي، يا صديقَ الإنسانِ، مَنْ هُم أعداءُ الإنسانِ؟.. قال الحصانُ: هو.. هو.. و.. إنّ أعداءه كثيرون جداً، ولكنّه قهرهم كلَّهم، وتحصّن ضدَّهم. تحصّن من الوحوشِ، من العواصفِ والأمطارِ، من الحرِ والبردِ، من الجراثيمِ والأمراضِ التي أوجدَ لها الأدويةَ المضادّة ليقتلَها ويتغلبَ عليها، لقد سخّرَ كلَّ شيءٍ لخدمتِه وراحتِه ومتعتِه وسعادتِه، فهو سيدُ الموقفِ في كلِّ شيءٍ.‏

ـ ولكن قلْ لي بصراحةٍ.. من يقدرُ عليه؟.‏

ـ لا يقدرُ على الإنسانِ إلا الإنسانُ، إن الإنسانَ عدوُّ الإنسانِ، ولكنّ الإنسانَ لا يقدرُ على الموتِ.‏

ـ من هو الموتُ؟.. سأذهبُ إليه، سأكلِّمُه واستنجدُ به.‏

ـ هو من عند الذي خلَقَه، القادرِ عليه وعلى كلِّ شيءٍ.‏

ازدادَ النَّمِرُ الصغيرُ خوفاً، فهذه مشكلةُ المشكلاتِ، لا يقدرُ عليه إلا خالقُه، وواحدٌ مثلُه من جنسِه، وأنا لا أستطيعُ أن أشكوه لإنسانٍ مثلِه لأنّي أخشاه، سأشكوه إلى الذي خلَقَه. سمعَ النَّمِرُ صوتَ خطواتٍ خفيفةٍ ذواتِ إيقاعٍ منتظمٍ، جحظتْ عيناه حتى كادتا تخرجانِ من رأسِه، ومطَّ فمَه إلى الأمام، تراجعَ خطوةً..سابت قوائمُه، عندما رأى كائناً حياً يمشي على اثنتين، منتصبَ القامةِ، جميلَ الخلقةِ، رأسُه متوّجٌ بشعرٍ لامعٍ نظيفٍ، ابتسامتُه مشرقةٌ ودودةٌ ساحرةٌ كابتسامةِ أخيه وأحلى، لا شكَّ في أنّه الإنسانُ، إنّه يبدو رائعاً ولطيفاً. تقدّمَ النَّمِرُ الصغيرُ خطوتينِ ليقدِّمَ نفسَه مع شّدة خوفه، ولكنه ذكّرَ نفسَه بأنّه لا بدّ من المواجهةِ التي تعبَ كثيراً من أجلِها. رجَعَ الإنسانُ إلى الوراءِ خطوتين ومد يدَه إلى الخلفِ.‏

تساءلَ النَّمِرُ الجريءُ المغامرُ ذو الوجهِ الأبيضِ الضاحكِ والأنفِ الأسودِ:‏

ـ لماذا لا يريدُ الاقترابَ مني؟.. إنّي أر... يد... د.‏

ـ تراك تريك.. بم.‏

ـ على حين غفلةٍ، شيءٌ وَمَضَ ومرَّ بريقٌ خاطفٌ. شعرَ بشيءٍ ما في فخذه يؤلمُه بشدةٍ، سقطَ على الأرضِ، دارتْ الأرضُ به، رأى نجوماً تلمعُ.. ورأى أمَّه وأخاه.. ثم وجد نفسَه في حديقةٍ للحيوان ورجلُه مشدودةٌ إلى شيءٍ صلبٍ.. إنّه أسيرٌ ضمنَ قفصٍ حديديٍ قويّ، إنه محجوزٌ وبعيدٌ عن أعزِّ ما في الوجودِ، الحرّيةِ وأمِه وأخيه، عن البراري والسهولِ الواسعةِ والأشجارِ العاليةِ والنهرِ بمياهِه العذبةِ وعن الشّمسِ ذاتِها.‏

كان ينامُ كلَّ يوم، ويحلمُ بالغاباتِ والجريِ والقفزِ والصيدِ الطازجِ اللذيذِ، إنَّه يذوبُ حنيناً وشوقاً لأمِّه وأخيه، لو استمعَ جيّداً لكلامِ أمِه وأخذَ بنصائِحها، لما أصبحَ هنا في هذا القفصِ الضيقِ، يأكله الرعبُ والقهرُ والذلُّ، ويُحرمُ من حرّيتِه.‏

أصبح يرى صغارَ الإنسانِ كلَّ يومٍ من خلالِ القضبانِ يضحكونَ له ومنه، يرمونَ له فتاتَ طعامِهم، ويأخذونَ الصورَ معه ويغادرونَه غيرَ مهتمين بمشاعِره ولا بأسئلتِه الكثيرةِ الحبيسةِ في صدرِه التي تخرجُ عواءً مجروحاً، أو تفيضُ أحياناً مع دموعِ عينيه الغزيرةِ. وما زالَ النَّمِرُ الشجاعُ يتساءلُ: كيفَ وقعَ في هذا القفصِ؟.. لم تجرِ مواجهةٌ.. لم يهاجمْه أحدٌ وجهاً لوجهٍ.. لم يستخدمْ شيئاً من عضلاتِه وقدراتِه ومهاراتِه التي تدرَّبَ عليها.. ثم إنّه لم يؤذِ أحداً، لقد بحثَ عن الإنسانِ ليتعرَّفَ عليه.. كانت تلك مغامرةً من نوع ما.. جاءَ إلى الإنسانِ لأنّه سمعَ الكثيرَ عنه.. وكان أملُه كبيراً في أن يفهمَه.. ويتفاهمَ معه.. لم ينجحُ في شيءٍ مما تجاسرَ على فعلِه.. هل حرمَه الإنسانُ حتى من رؤيتِه والتعرف عليه؟ يا له من كائنٍ عجيبٍ.‏