نسمةٌ
نسمةٌ
في يومٍ دافئٍ جميلٍ، خرجتْ الملكةُ من قصرِها الباذخِ، باتجاهِ الحقولِ لتروِّحَ عن نفسِها، فقد كانتْ، شديدةَ الحزنِ، مشوشةَ التفكيرِ، الدنيا كلُّها في عينيها لا تساوي ضحكةَ طفلٍ: إذْ لم يرزقْها اللهُ بطفلٍ تسعدُ به مع زوجِها الملكِ، على الرغمِ من أنّها لم تتركْ حكيماً إلا قصدَتْه أو أُحْضِرَ إليها لترزقَ طفلاً ولكنّها لم تُفلحْ في ذلك.
سارتْ في الحقولِ بعيداً حتى أشرفتْ على ربوةٍ خضراءَ تتماوجُ فيها الخضرةُ والأزهارُ البديعةُ من كلِّ الأشكالِ والألوانِ. صعدتْ إلى الأعلى وأجالتْ نظرَها في المكانِ، فكانَ كلُّ ما حولَها يضجُّ بالجمالِ: العشبُ الأخضرُ النديُّ، والأزهارُ الملونةُ بعبيرها الفوّاحِ، والعصافيرُ، والفراشاتُ. جمعتْ بعضَ الأزهارِ في باقةٍ صغيرةٍ ونظرتْ إلى السماءِ وتمنّتْ على اللهِ أن يرزقَها بنتاً لها بياضُ أوراقِ "المارغريت" وخدودُها بحمرةِ شقائقِ النّعمانِ وعيناها بصفاءِ زرقةِ السماءِ، وشعرُها بلونِ أشعةِ الشّمسِ الذهبيةِ.. بِقَدٍ أهيفَ ممشوقٍ كالخيزرانِ، تكونُ طيبةً ورقيقةً عذبةً كنسمةِ عَطِرَةٍ.
افترشتْ الملكةُ الأرضَ ووضعتْ بين يديها الأزهارَ التي جمعتْها.. تخيَّلَت طفلةً تلعب وتقفزُ كالغزالة تحتَ أشعةِ الشمسِ الدافئةِ، فتحتْ قلبَها وذراعيها، نادتْها بكل شوقٍ وحاولتْ أن تضمَّها إلى صدرها ولكنّها ضمّتْ الفراغَ..
أخذتْ تبكي بحرقةٍ، وأخذَ نشيجُها يعلو ورأسُها بين ركبتيها.. لم تعرفْ كم مضى من الوقتِ قبلَ أن تحسَّ بيدٍ دافئةٍ تربتُ على كتفيها، أجفلتْ.. رفعَتْ رأسَها وبدتْ الدموعُ في عينيها فرأتْ أمامَها امرأةً عجوزاً تبتسمُ لها:
ـ خيراً إن شاءَ اللهُ.. ماذا أصابَكِ يا بنيتي؟.. لماذا كلُّ هذا البكاءِ؟.. إنّكِ شابةٌ جميلةٌ وغنيةٌ كما أرى، وتستطيعينَ أن تحصلي على كلِّ ما تريدين.
ـ لا يا خالةُ.. إنني لا أستطيعُ أن أحصلَ على ما أتمنّى.
ـ بالصبرِ والمثابرةِ والجِدِّ والمالِ يمكنُك هذا.
ـ لكنّ الذي أطلبُه وأتمنّاه لا يُشتري بالمالِ ولا يمكنُ الحصولُ عليه بالعملِ أو الجِدِّ.
ـ بالصبرِ..؟
ـ لا أدري يا خالةُ أرجوك.. لا أستطيعُ أن أتكلّمَ أكثرَ. أنا حزينةٌ ويائسةٌ.
ـ هل ما تريدينَه مستحيلُ التحقيقِ..؟
ما ينقصُني وأتمنّاه هو أنْ أرزقَ طفلةً أو طفلاً يملأُ عليَّ حياتي وأمنحُه حبّي وحناني.. أحسّ أنني لستُ مثلَ كل النساءِ الأخرياتِ. عندي نقصٌ.. أتمنّى أن أكونَ أفقرَ إنسانةٍ في الدنيا على أن يكون عندي أولادٌ.
لم تتمالكْ الملكةُ نفسَها وأجهشَتْ في البكاءِ.
اقتربتْ منها السيدةُ العجوزُ وجلستْ أمامها، ومسَحَتْ دموعَها بمنديلٍ حريريٍ أبيضَ مطّرزٍ، على زواياه أوراقُ أزهارٍ بيضاءَ وحمراءَ وصفراءَ وزرقاءَ. لفتَ المنديلُ انتباهَ الملكةِ وأعجبتْ به كثيراً، واستغربتْ وجودَه مع هذه السيدةِ التي يدلُّ منظرُها على الفقرِ.
قالت السيدةُ العجوزُ وهي تمسِّدُ شعرَ الملكةِ:
ـ ابتسمي، حتى أرى إشراقةَ وجهِكِ، ثم بعدها نتكلّمُ فقد أستطيعُ مساعدتَكِ.
سألتْ الملكةُ بلهفةٍ:
ـ كيف، أرجوكِ.؟
قالت العجوُز بثقةٍ كبيرةٍ:
ـ دواؤك عندي. سوفَ أعالُجك، وستُنجبينَ طفلةً بعونِ اللهِ كما تَمَنَّيْتِها، بيضاءَ البشرةِ ورديةَ الوجنتينِ، زرقاءَ العينينِ، ذاتَ شعرٍ أشقرَ هفهافٍ.
ـ أرجوكِ. سأدفعُ لك كلَّ ما تطلبينَ. سأجعلُكِ غنيّةً كملكةٍ، سأتخلّى عن كلِّ ما أملكُ.
قالت العجوزُ مداعبةً:
ـ وماذا تتركينَ لابنتِك القادمِة؟..
ـ أتركُ لها حبّي وحناني. سأعملُ لأحقّقَ لها كلَّ ما تطلبُ وتتمنّى.
ـ لا يا بنيّتي أنا لا أريدُ منك شيئاً، لستُ بحاجةٍ إلى المالِ ولا إلى أي شيءٍ آخر. كلُّ ما أريدُه أنْ أركِ سعيدةً، وقد تحققتْ آمالُكِ وأصبحتِ أمّاً. فالأولادُ زينة الحياةِ ومشاعلُها المتّقدةُ.
ـ أنا مستعدةٌ للذهاب إلى آخرِ العالمِ منْ أجلِ أنْ يكونَ لي طفلةٌ. أرجوكِ، أشيري عليّ وساعديني.
ـ اصبري قليلاً، واستمعي لشرْطي.
ـ كلُّ شروطِكِ ملبّاةٌ ومقبولةٌ.. مهما كثرتْ وكبرتْ.
ـ لي شرطٌ واحدٌ فقط.. شرطٌ وحيدٌ.
ـ ما هو؟.. أرجوكِ قولي..
ـ أن تهتمّي بطفلتِك وتُحسني تربيتَها وتعليمَها وتهذيبَها وتهيئتَها للحياة.. وإلاّ فسوفَ أستردُّها منكِ.
قالتِّ الملكةُ بفرحٍ وثقةٍ وتأكيدٍ:
ـ لكِ هذا، سأعتني بها أكثرَ من حياتي. إنّني ألتزمُ بكلِّ ما تطلبينَ. سأعتني بها.. كيف لا أفعلُ أيّتُها السيّدةُ الطيّبةُ وهي حياتي ووجودي.!
نظرتْ السيدةُ العجوزُ إلى الملكةِ بعطفٍ، ومدَّتْ يدَها إلى جيبٍ داخليٍ في ثوبِها، وأخرجتْ منه بعد تفتيشٍ بذرةً صغيرةً بيضاءَ قدَّمَتْها للملكةِ.
تناولتها الملكةُ كما لو أنها أغلى جوهرةٍ في العالمِ، وفي عينيها ألفُ سؤالٍ.
قالت العجوزُ:
ـ خذي هذه البذرةَ الصغيرةَ، واحتفظي بها إلى الغدِ، وعندما ترتفعُ الشمسُ، وتصبحُ فوقَ رأسِكِ مباشرةً وهي في أوجِ توهُّجِها. ابتلعي هذه البذرةَ مع كأسٍ من الماءِ الصافي، وانتظري النتيجةَ، أتمنّى من اللهِ أن يستجيبَ لكِ ويرزقَكِ طفلةً.
ـ شكراً لك. لن أنسى فضلَك عليّ ما حَييتُ.
ـ لا يا بنيّتي ليس لي فضلٌ في شيءٍ.. أنا أساعدُك بعونِ اللهِ.
مدّتْ العجوزُ يدَها بالمنديلِ الحريريِّ وقالتْ: تفضلّي بأَخذِ هذا المنديلِ وأبقيه معكِ، وعندما تحسّينَ بآلامِ المخاضِ، لوّحي به من نافذةِ بيتِكِ التي تشرفُ على هذه الحقولِ.. سأكونُ عندَكِ بعدَ مدّةٍ قصيرةٍ.
لم تصدّقْ الملكةُ ما سمعتْ... شكرتْ السيدةَ العجوزَ وهمَّتْ بتقبيلِ يدِها... أحسَّتْ أنّها مثلُ فراشاتِ الحقولِ بأجنحةٍ بيضاءَ... ذَهِلَتْ عن نفسها لحظةً، وحين صَحَتْ من حلمِها كانتْ السيدةُ العجوز قد اختفتْ. وَضَعَتْ الملكةُ البذرةَ في المنديلِ الحريريِّ وربطتْها بعنايةٍ فائقةٍ وخبّأتْها في صدرِها بجانبِ قلبِها، وأسرعتْ باتجاه القصرِ وهي تحملُ أعظمَ كنزٍ وأغلاه في العالمِ... تحملُ الأملَ. قالتْ في نفسِها: " إذا صحَّ ما قالته هذه السيدةُ الطيبةُ سأكونَ أسعَد إنسانةٍ في العالمِ".
عادتْ مستبشرةً فَرِحةً تحملُ الكثيرَ من الأملِ والحبِّ، لاطفتْ الجميعَ في القصرِ: الوصيفاتِ والخدمَ وحتى النباتاتِ والأزهارَ. استغربَ الملكُ تصرُّفَها وحيويَّتَها، إنّه لم يرها منذُ مّدّةٍ طويلةٍ بمثلِ هذا المرحِ والنشاطِ. فرحَ من أجلِها ولم يوجِّه لها أيَّ سؤالٍ، حتّى لا يفسدَ عليها فرحَها وسعادتَها.
لم تنم الليلَ كلَّه وهي تفكرُ بتلكَ السيدةِ وكلامِها وثقتِها بما تقولُ، وبقيتْ تعدُّ الدقائقَ والثوانيَ لاستقبالِ أجملِ يومٍ سيغيّرُ مجرى حياتِها. خرجتْ إلى حديقةِ القصرِ تقطفُ الأزهارَ، وتكلِّمُ البلابلَ، تجري في الممراتِ وتلعبُ بمياهِ البحيرةِ، تنظرُ إلى السماءِ تستعجلُ شروقَ الشمسِ.
أخيراً حانَ الوقتُ... الشمسُ في كبدِ السماءِ.. طلبتْ كأسَ ماءٍ ووقفتْ تحتَ الشمسِ العموديةِ، أخرجتْ البذرةَ البيضاءَ من المنديلِ بحذَرٍ وابتلعتْها مع الماءِ النقيِّ. أخذتْ الطمأنينةُ تتسرّبُ إلى نفسِها، وهي تمضي إلى سريرِها. استلقتْ عليه ومضتْ مع أحلامٍ جميلةٍ لم تحلمْ بمثلها أبداً.
بعد مدّةٍ من الزمنِ ظهرتْ عليها بوادُر الحملِ، لم تصدّق نفسّها، طارتْ من الفرحِ، وأعلمتْ الملكَ بحمِلها، وحكتْ له قصةَ تلكَ السيدةِ العجوزِ الطيبةِ.
أقيمتْ الأفراحُ في القصرِ وعُلِّقتْ الزيناتُ وأُشعلتْ الشموعُ، وأضيئتْ الشوارعُ والساحاتُ بأمرِ الملكِ، الذي طلبَ أن تبقى مُنَارةً حتّى تضعَ الملكةُ حملَها، ووُزِّعَتْ الثيابُ والأطعمةُ والهدايا على أفرادِ الشعبِ، وسعدتْ المملكةُ كلُّها لسعادةِ الملكةِ والملكِ.
مرّتِ الأشهرُ التسعةُ على الملكِ بطيئةً ومشوبةً بالخوفِ والرجاءِ.. وحانَ موعدُ الولادةِ.
أخرجتْ الملكةُ المنديلَ الحريريَّ ولوّحتْ به من النافذةِ المطلّةِ على الحقولِ، وما هي إلا دقائق حتّى دخلتْ السيدةُ العجوزُ وهي ترتدي أجملَ الثياب وتحملُ الكثيرَ من الزهورِ البريةِ الملوّنةِ، تفوحُ منها رائحةُ الحقولِ التي عبقتْ بها أرجاءُ القصرِ. رتّبتْ العجوزُ الأزهارَ في مزهرياتٍ عدّةٍ وزّعتها في أنحاءِ الغرفةِ، وفرشتْ السريرَ بأغطيةٍ من الحريرِ الأبيضِ الموشّى بالأزهارِ حملتْها معها، وأسدلتْ على النوافذِ ستائرَ من الحريرِ الأزرقِ الهفهافِ. وبعدما انتهتْ من عملِها ذاكَ قالتْ للملكةِ:
ـ استعدّي.. بعدَ قليلٍ ستولدُ الملكةُ الصغيرةُ. أذكّرك يا بنيّتي لا تنسي وعدَكِ لي.. آملُ أن تنفذيه بدقة ونجاح.
قالت الملكةُ السعيدةُ ودموعُ الحبِّ والعرفانِ بالجميلِ تفيضُ من عينيها:
ـ سأتركُ تربيتَها لكِ أيَّتُها الأمُّ الطيبةُ وسأبقى مَدينةً لكِ ما حَييتُ. أرجو أن تقبلي دعوتي وتقيمي معنا هنا يا أمّاه..
ـ لم تجبِ السيدةُ العجوزُ لأنّها كانت مشغولةٌ بالملكةِ.. أخذتْها ووضعتْها على سريرِها، ووضعتْ الوسائدَ خلفَ ظهرِها.
وترنّحَ القصرُ طرباً على صوتِ بكاءِ طفلةٍ صغيرةٍ، كان صوتُها عذباً أحلى من تغريدِ البلابلِ، أدخلَ الفرحةَ على كل مَنْ في القصرِ وأضفى البهجةَ على كل ما فيه.
نظرتِ الملكةُ إلى طفلتِها، كانتْ جميلةً جداً بثيابها البيضاءِ التي ألبستْها إيّاها السيدةُ العجوُز الطيّبةُ. كانتْ الطفلةُ جميلةً تعجزُ الكلماتُ عن وصفِها. إنّها كما تمنيتُ تماماً. قالتِ الملكةُ بفرحٍ غامرٍ:
ـ انظري يا أمّاه ما أجملَها.. أنظري عينيها وشعرَها..
لم تسمعْ صوتَ العجوزِ، تلفتتْ حولها فلم تجدْها.
صاحتِ الملكةُ:
ـ أينَ أنتِ يا أمّاه... أين أنتِ؟!
استغربَ كلُّ مَنْ هم حول الملكةِ من ندائها.
لا توجدُ أمّ.. ولا يوجدُ أحدٌ في القصرِ..
رفعتِ الملكةُ صوتَها مرّةً أُخرى:
ـ أين أنتِ أيَّتُها الأمُّ الطيبةُ؟!
لا يوجدُ صوتٌ ولا صدى، لم تجْدها ولم يرَها أحدٌ من الموجودين جميعاً في القصر.
عادتِ الملكةُ إلى نفسِها، واستغرقتْ في صمتٍ فَرِحٍ وهي تنظرُ إلى طفلتِها. أخذتِ الطفلةَ، وضمَّتْها إلى صدرِها بكلِّ الشوقِ والحبِ.
أصبحتْ الطفلةُ الرقيقةُ الوديعةُ محطَّ اهتمامِ الجميعِ: الملكةِ والملكِ وأخوتِه وأقاربِه، والوصيفاتِ والخدمِ... إنهم يراعونَها ويهتمونَ بها اهتماماً فائقاً. أخذتْ تكبرُ وتتفتّحُ وتزدادُ جمالاً وعذوبةً، كانوا يدعونَها: نسمةً لرقتها ولطفِها، أما الملكةُ فقد سمتْها زهرة. وكان هذا تيمُّناً بالسّيدةِ العجوزِ زهرةٍ وعرفاناً بجميلها.
كانت نسمةُ تطلبُ فيلبّى طلبُها مهما كانَ. وضع والدُها على رأسِها تاجاً مرصَّعاً بأندرِ الجواهرِ والدررِ، وزيّن أصابعَها الصغيرةَ بالخواتمِ والأحجارِ الكريمةِ والماسِ. ووُضِعتْ في قدميها أثمنُ الأحذيةِ المصنوعةِ من جلودِ التماسيحِ والحياتِ، مزيّنةً بسلاسلَ من ذهبٍ. كانت تَطعمُ أطيبَ الطعامِ وأجودَه وتلبسُ أجملَ الثيابِ وأفخرَها.
شُغف بها جميعُ مَنْ في القصر، وكانوا يراعونها ويطلبون ودّها ويعجبونَ بجمالِها ورقتِها وطيبتِها، فقد كانتْ لطيفةًً ودودةً تحبُّ الجميعَ. لقد أدخلتِ البهجةَ والسرورَ إلى القصرِ وحياةِ والديها، وتغيّرَ كلُّ شيءٍ في وجودِهما.
كانتْ تنزلُ إلى الحديقةِ تُطعمُ العصافيرَ والبلابلَ وتلقي الخبزَ للبطاتِ في البحيرةِ والطعامَ للأسماكِ. تلاعبُ الكلبَ وتدلّلُ القطةَ، وعقدتْ صداقاتٍ معها جميعاً، فهي محبّةٌ ومحبوبةٌ.
في أحدِ الأيامِ جاءَ لزيارةِ والدِها ملكٌ من مملكةٍ مجاورةٍ مع زوجته الملكةِ وابنِه الشابِ، نزلوا في القصرِ. كان الملكُ الشاب يمشي في الحديقةِ، رأى من بعيدٍ فتاةً كالملاكِ، لم يصدّق عينيه.. اقتربَ منها وسلَّمَ عليها.
ـ أنا زيادٌ.
ـ وأنا نسمةُ. أنا سعيدةٌ بوجودِك هنا، هل تحبُّ الطيورَ والأزهارَ والأسماكَ.
ـ كثيراً.
ساعدَها بكل ما تقومُ به.. تحدّثا معاً، تعارفا وانسجما، أُعجبَ بجمالها ولطفِ حديثِها ورقتِها.
وأخذَ ينتظرُ كلَّ يوم لينزلَ معها إلى الحديقةِ. مضى الوقتُ سريعاً واقتربتْ ساعةُ رحيلِ الملكِ الضيفِ. فطلبَ ابنه زيادٌ من والدتِه أن تخطبَ له نسمةَ. وافقتْ الوالدةُ على الفورِ لأن نسمةَ جميلةٌ وابنةٌ ملكٍ وقد أعجبَتْها كثيراً. فتكلّمَت مع والدتها طالبةً موافقتَها. كانت الملكةُ الأمُّ سعيدةً جداً من أجل ابنتها، وقلقةً لفراقِها الذي لا تستطيعُ تحمّله.. أخبرتْ الملكَ بذلكَ فبدا سعيداً منشرحاً هو الآخر، قالَ:
ـ سيعيشُ معنا هنا في هذه المملكة وفي هذا القصر وسيتولّى عرش مملكتي مع ابنتي، سيصبحُ لنا ابنةٌ وابنٌ سيكونُ هذا رائعاً.
وافقَ الملكُ. وسُرَّ الجميعُ، وبعد تناولِ الحلوياتِ والمرطِّباتِ طلبَتْ أمُ الملكِ الضيفِ زياد أن تعزف لهم نسمةُ قطعةً موسيقيةً بهذه المناسبةِ السعيدةِ تعبِّر بها عن شعورِها. استغربَتْ نسمةُ هذا الطلبَ، ونادتْ إحدى وصيفاتِها التي تجيدُ العزفَ، وأمرَتْها بأنْ تعزفَ. عزَفَتِ الوصيفةُ وأجادتْ وأُعجبَ ببراعتِها الجميعُ. صفّقوا لها طويلاً، ولكنّ الملكةَ أمَّ زيادٍ أعادتِ الطلبَ وقالتْ: أنا أريدُ أن أسمعَ عزفَ نسمةَ.
ـ أنا لا أجيدُ العزفَ يا عمّتي، إنني أتذوّقُ الموسيقى واستمعُ إليها.
سألتْ الملكةُ أمُّ زيادٍ:
ـ أينَ تلقّيتِ علمَكِ, ما هي اللغاتُ التي تُجيدينَها؟
استغربَتْ نسمةُ وعقدَتِ الدهشةُ لسانَها:
ـ أنا لا أتقنُ أيَّ لغةٍ.
أحسَّتْ نسمةُ بالخجلِ الشديدِ، إنها لم تفكِّرْ بهذا، لم تسمعْ بمثلِ هذا الكلامِ من قبلُ ولم يسألْها أحدٌ مثلَ هذا السؤالِ. قالتْ أمُّ الملكِ:
ـ لا بدَّ أنَّ لك هواياتٍ جميلةً ومفضّلةً أَخذتْ منكِ كلَّ وقتِكِ.
تلعثمتِ الصبيةُ الجميلةُ واحمرَّ، وجهُها خجلاً، ولم تدرِ بماذا تجيبُ.. صمتَتْ أمُّ الملكِ الصغيرِ زيادٍ.. لم يعجبْها حالُ هذه الملكةِ الجديدةِ.
في اليومِ التالي صادفَ عيدُ ميلاد نسمةَ، أصبحَ القصرُ كخليّةِ النحلِ، زُيّنتِ القاعاتُ، وأُشعلتِ الشموعُ، وُوزِّعتِ الأزهارُ في كلِّ أركانِ القصرِ، ومُدّتِ الموائدُ بما لذَّ وطابَ من أطعمةٍ وحلوياتٍ وفواكهَ.
قالتْ أمُّ الملكِ لنسمةَ:
ـ تعالَيْ معي سنصنعُ معاً كعكةً صغيرةً لميلادِكِ.
ـ لماذا؟.. إن الطبَّاخينَ في المطبخ يتولّون كلَّ هذا.
ـ أعرفُ. ولكنْ إذا أشرفتِ عليها أنتِ وتدخّلْتِ بوضعِ موادِها ومقاديرِها وحتى في صنعِها ستكونُ أزكى طعماً وأجملَ شكلاً، إنكِ ستَضفين ذوقَك عليها.
ـ لكنّي لا أعرفُ.
ـ حاولي.. تعلّمي..
دخلتْ نسمةُ المطبخَ، ولم تصدِّقْ أن كعكةَ الميلادِ اللذيذةَ مكوّنةٌ من البيضِ والطحينِ والزبدةِ والشوكولا...
بعد أنْ أنهى الطباخُ صنعَ الكعكةِ، حاولتْ أن تحملها وتضعَها في الفرنِ فلَذعَت النار أصابعَها. خرجت من المطبخِ متألّمةً تتأوّه من الحرقِ، وخَجِلةً من جهلِها بأصغرِ الأمورِ التي لا بدّ أن تعرفها المرأةُ. ولأوّلِ مرةٍ منذ وعتِ على الدنيا بكتْ. بكى معها كثيرون في القصرِ، وبكتْ أمُّها، وأخذتْ تطيّبُ خاطرَها.
حانَ موعُد رحيلِ الملكِ، وانشغلَ الجميعُ بالوداعِ، وعادتْ نسمةُ تفكّرُ بنفسِها، وبأنّها يجب أن تتعلَّمَ، وتتقنَ العزفَ واللغاتِ والطبخَ وأشياءَ كثيرةً أخرى. وأنّ الدلالَ واهتمامَ الآخرينَ المطلقَ بها لم ينفعاها بشيءٍ.
انتظرتْ من خطيبِها الملكِ الشابِ بعد سفرِه أن يراسلَها أو يسألَ عنها، ولكنّه لم يفعل فَذَوَتْ ولم تَعُدْ تهتمُ بالهدايا الثمينةِ ولا بالرعايةِ التي تُحاطُ بها، ولم تخرجْ للنزهاتِ أو الرحلاتِ التي تحبُّها. لم تعدْ تطربُها كلماتُ المديحِ والإعجابِ التي تسمعُها أينما حلّتْ، وأخذتْ تشعرُ بأنها نسمةٌ رقيقةٌ تعطّرُ حياةَ والديها وتسرُّ من ينظرُ إليها من بعيدٍ ولكنّها لا تفيدُ ولا تقدِّمُ خدمةً.. وعلمتْ بأنّ زياداً ابنَ الملكِ قد خطبَ فتاةً أخرى. تألّمتْ وذَبُلَتْ وذَوَتْ، ودَبَّ الضجرُ في حياتِها وانزوتْ في غرفتِها وتسرّبتْ الكآبةُ إلى نفسِها.
وفي يومٍ دافئٍ جميلٍ، اصطحبَتْها الملكةُ إلى الحقولِ لتروّحَ عنها لعلّها تعودُ إلى طبيعتها المرحةِ، وتنسى همومَها قليلاً. كانتِ الملكةُ حزينةً جداً لحزنِ ابنتِها ونحولِها وعزوفِها عن كلِّ ما كانتْ تحبُّ. رأتِ التلّةَ التي اعتلَتْها يومَ جاءتها العجوزُ زهرةُ وأعطتها البذرةَ والمنديلَ، رأتْها أمامَها خضراءَ تموجُ بالأزهارِ من كلِّ الألوانِ والأشكالِ. صعدتِ التلّةَ مع ابنتها، وافترشتْ العشبَ الأخضرَ، واستعادتْ ذكرياتِها قبلَ ثمانيةَ عشرَ ربيعاً. كانت مشوشةَ الذهنِ بعضَ الشيءِ، قطفتْ طاقةً من الأزهارِ البيضاءِ والحمراء والصفراءِ.. أعطتْها لابنتِها.
ـ كم هي جميلةٌ وعطرةٌ يا أماه.. كم هي جميلةٌ وعطرةٌ هذه الأزهارُ.
فجأةً هبّتْ عاصفةٌ هوجاءُ حملتْ (زهرةَ.. نسمة) الفتاة الجميلة، تفككتْ إلى أوراقِ أزهارٍ حمراءَ وبيضاءَ، وأشعةٍ ذهبيةٍ.. تطايرتْ مع الريحِ على مدى السهولِ الواسعةِ.
ومرّت السيدةُ العجوزُ مع العاصفةِ وضمَّتْ الزهرَ المتناثرَ إلى حضنِها، وحلَّقتْ فوقَ الملكةِ الجاحظةِ العينينِ من الصدمةِ والدهشةِ، قالتِ العجوزُ بصوتٍ رقيقٍ ذي صدى.
ـ عذراً أيَّتُها الملكة العزيزةُ.. أنا آسفةٌ لما حصلَ. انظري إليها كيف تطايرتْ مع الريحِ وتبعثرتْ إلى كلِّ الجهاتِ.. لم تنفِّذي شرطي، ليس بيدي حيلةٌ، لا بدّ أن أستعيدَ زهرةَ، لم تنفّذي شرطي، أَزِفَ الوقتُ ولاتَ حين مَنْدَم.
صرختِ الملكةُ بحرقةٍ ومرارةٍ:
ـ ماذا تقولين.. لقد أحببتُها ووضعتُها في قلبي وعيني ومنحتُها كلَّ اهتمامي.. كنتُ أرعاها وأدلّلُها وألبّي كلَّ طلباتِها، كانتْ حياتي.. كلَّ حياتي.
ـ لا أشكَ بهذا أبداً، لكّنكِ لم تعلميها شيئاً ممَّا يجبُ أن تتعلّمه في الحياةِ. لو علمتِها لكانَ علمُها سداً منيعاً يردّ عنها الخوفَ والجهلَ وجراحَ الناس وملاحظاتِهم، ويثبّتُها بوجهِ هبّاتِ الريحِ الهوجاءِ، ولكانتْ راسخةً لا تستطيعُ العواصفُ اقتلاعَها وبعثرتَها. لو أنها تعلّمتْ أيَّ عملٍ وقدّمتْ للناسِ خدمةً وفائدةً مع حبِّها ولطفِها لكانَ ذلكَ سياجاً يحميها من الرياحِ والعواصفِ والحزنِ والخوفِ وتقلُّبِ الأيامِ والأحوالِ.
ـ ماذا تقولينَ؟ ماذا.. تعملُ!.. تخدمُ!.. تقدّمُ للناسِ! إنَّها ملكةٌ.. يخدمُها الجميعُ.
ـ يا سيّدتي اعذريني، لم تستطيعي لشدّةِ حبِّكِ لها أن تقدّمي لها ما ينفعُها ويحميها، لم تعلّميها لتكونَ قويةً بنفسها لا بكِ ولا بالملكِ أبيها. عودي إلى قصرِكِ وعيشي كما كنتِ.. أما زهرةُ ففي حضني أنا.
ـ لكنها ابنتي. حياتي. لن أذهبَ. سأبقى هنا لأجمعَها وأعيدَها إلى القصرِ.
ـ لا، لن تستطيعي، إنها ابنةُ الحقولِ.. ابنةُ الحياةِ، هي نسيجٌ من الأزهارِ والأشعةِ ولونِ السماءِ وصفاءِ الطبيعةِ وحيوّيتِها. لقد ابتعدتِ الآنَ لا يستطيعُ أن يلحقَ بها أحدٌ.
اختفتِ العجوزُ، وتوقفتِ العاصفةُ، وبقيتْ الملكةُ مع دموعِها. هل يمكنكم أن تعرفوا ماذا حلَّ بالملكةِ.؟.